في سنة1926, أصدر طه حسين كتابه الشهير في الشعر الجاهلي الذي حاول فيه اثبات أن الشعر المنسوب إلي الجاهليين, ليس من الجاهلية في شئ, وانما كتبه المسلمون في ظل الاسلام ونسبوه انتحالا الي الجاهليين, مستخدما في ذلك منهج الشك الديكارتي, وفي طريقه إلي تأكيد نظريته عبر عن شكه في الوجود التاريخي الحقيقي لسيدنا ابراهيم وسيدنا اسماعيل رغم ورود اسميهما وقصتهما في التوراة والقرآن, كما زعم أن قراءة القرآن علي الأحرف السبعة, هو من اختلاف القبائل ولهجاتها وليس منزلا من لدن الله سبحانه وتعالي, وغير ذلك مما آثار ثائرة المحافظين التكفيريين الذين مازالوا يعيثون في الأرض فسادا, وقامت مظاهرات الأزهريين والرجعيين وقدم الي النيابة, وانتهت تلك العاصفة بأن خرج منها طه حسين مرفوع الرأس موفور الكرامة متبوأ المكانة السامية بين مفكري النهضة والتنوير: رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وقاسم أمين ولطفي السيد, واستمر طه حسين في مكانه المرموق في وطنه وبين أهله, وعمل عميدا لكلية الآداب, ومؤسسا ورئيسا لجامعة الاسكندرية, ووزيرا للمعارف ورئيسا لتحرير العديد من الصحف ورئيسا لمجمع الخالدين مجمع اللغة العربية إلي أن مات في منزله رامتان بالهرم سنة1973, عن عمر يناهز الرابعة والثمانين, فلماذا لم يتوفر لنصر حامد أبوزيد ما توفر من قبله لطه حسين؟ وأنا أظن أن السبب في ذلك يعود إلي حالة الوطن الفكرية والثقافية والقانونية والسياسية, فقد كانت أزمة الشعر الجاهلي في ظل وطن معاف ومن هنا فلم تخذل طه حسين وزارة الأحرار الدستوريين بزعامة عبدالخالق ثروت, رغم أنها احدي وزارات الأقلية, ولم يخذله البرلمان ولم يخذله جمهور الناس من المثقفين والمتعلمين, والأهم من هذا كله أنه لم تخذله إدارة الجامعة بل ساندته وايدته ووقفت خلفه تشد من أزره حتي يتجاوز المحنة, والي هذا كله كان لدينا نظام قانوني محترم ومعتبر, لم يتوسع في الاتهام ولم يبالغ في التفتيش في الضمائر ولم يطرح من الأساس قضية تكفير الرجل, وانما التزم بنص الاتهام الموجه اليه, وبعد بحث طويل قام به النائب العام الذي يستحق أن يكتب اسمه بأحرف من نور محمد كامل نور بين بطون كتب اللغة وكتب التراث, انتهي الي ان ما كتبه طه حسين مما آثار الناس لم يكن هدفه التشكيك في العقائد وانما كان سعيا علميا بحثيا اقتضاه منهجه في الشك لاثبات نظريته. ومن هنا انتهت النيابة الي انه لا مجال لتوجيه الاتهام لطه حسين ولا إلي تقديمه الي المحاكمة, و حفظت الأوراق إداريا. هكذا انتهت أزمة طه حسين. ولم يكن الحال كذلك بالنسبة لنصر حامد أبوزيد, الذي راح يدعو إلي التأويل والاجتهاد ونقد الفكر الديني والخطاب المتزمت, والتفاعل الايجابي مع العصر وقضاياه, فقد بدأت صيحات تكفيره من أحد كبار أساتذة الأدب العربي والذي كان من المفترض أن يعمل عقله في بحث منهج نصر حامد أبو زيد ونظريته وافكاره لا أن يبحث في نصيبه من الايمان والكفر, ووجد ذلك الاستاذ عشرات الأنصار من أساتذة التكفير الذين هيمنوا علي الجامعة فتحولت في عهدهم الي بؤرة لتخريج المتطرفين والارهابيين, بدلا من أن تكون معقلا للفكر والاستنارة وفي ظل قضية نصر لم يعد طلاب الجامعة مثقفين يحملون هموم الوطن والمستقبل, وانما مجرد طلاب محدودي الثقافة محدودي الطموح يكتفون من العلم بقشوره, وصولا الي الشهادة التي لا تعني الكثير. وفي ظل هذا المناخ المأزوم والمتطرف, لم تستطع إدارة الجامعة أن تقدم للرجل الكثير, فلم تدافع عن كرامة استاذها في مواجهة جحافل التطرف والارهاب, ولم تعترض علي التفتيش في ضمائر الناس لاختبار صدق ايمانهم, ولم تحتج علي انتهاك العلم والبحث العلمي, وهي في النهاية إدارة لا تعبر عن هذا كله وانما تعبر عن رضا الحكومة والأمن فحسب. والي جانب ذلك فقد ردد عشرات الكتاب والصحفيين من المتطرفين صيحات تكفير الرجل تلك الصيحات التي وجدت صداها في مناخ عام هيمن عليه اصحاب الخطاب الديني المتزمت, الذي لا يعينه العلم ولا التقدم ولا المستقبل, وانما يسعي إلي فرض الحجاب والنقاب, ومناقشة طول اللحية وطول الجلباب, وجواز ارضاع الكبير, واحكام دخول الخلاء, ومطاردة الشعراء والفنانين والمبدعين. ومع هذا كله فقد قدم الرجل الي المحاكمة, ليحاكم أمام قاض متطرف, لم يملك الشجاعة لكي يعلن انه يرد نفسه عن الحكم في قضية تتعلق بحرية التفكير التي لا يؤمن هو بها من الأساس, فراح ينقب في ضمير الرجل ودخائل نفسه ويطلب اليه في محكمة تعيد ذكري محاكم التفتيش ان ينطق أمامه بالشهادتين, وفي النهاية اصدر حكمه بالتفريق بين الرجل وبين زوجته الدكتورة ابتهال يونس, وهو ما يعني في عرف التطرف والمتطرفين ان الرجل مرتد, وفي عرف المتطرفين ايضا فإن قتل المرتد يعد واجبا شرعيا ينبغي ان تقوم به الدولة, فإن لم تقم به قام به آحاد الناس, وفي محاكمة المفكر الشهيد فرج فودة أكد الشيخ الغزالي أن قتل المرتد واجب ديني, اذا قام به المسلم فإنه فقط يعد مفتئا علي السلطة وحين سئل عن حكم المفتئت علي السلطة اجاب بأنه: لا يعرف في الاسلام عقابا للمفتئت علي السلطة. وإلي هذا كله فإن الدولة بآلتها القانونية الجبارة لم تستطع أو لم ترد ان تسن من القوانين ما يضمن صيانة حرية الفكر واستقلال الجامعة من عبث العابثين وتطرف المتطرفين وتنطع المتنطعين أو أن تضمن حرية البحث والدرس داخل اسوار الجامعة ككل جامعات العالم المحترم, وانما كان غاية جهدها ان توكل الي النيابة رفع قضايا الردة والحسبة. وبهذا اصبح الدكتور نصر حامد ابوزيد مهددا في حياته شاعرا ان حكما بالاعدام معلق فوق رقبته, ينتظر التنفيذ بيد أحد المهووسين لينال الأجر والثواب. ولم يكن امام الرجل إلا ان يرحل مفارقا جامعته وتلاميذه وأولاده وناسه ووطنه, ويحرمهم من علم نافع وفكر ملهم وثقافة منيرة, ويهب ذلك كله للغرباء, حقا انها ليست محنته فحسب ولكن محنة وطن بأكمله. [email protected]