علي الرغم من ان الدكتور نصر حامد ابو زيد عاش العشرين عاما الاخيرة من حياته طرفا أصيلا في معارك فكرية الا ان حياته ذاتها اتسمت بقدر من البساطة انعكست علي سلوكه الشخصي وعلاقاته مع المحيطين به من الاصدقاء والتلاميذ الذين ناشدوه طويلا ان يكتب سيرته الذاتية و قد كنت واحدا من بين عشرات تعرفوا عليه في جامعة القاهرة و امتدت العلاقة بعد ذلك بحكم المهنة وقد طالبته بنفس الطلب غير انه في كل مرة كان يقول:' لا يوجد في حياتي ما يستحق هذا الاهتمام' ذلك علي الرغم من غناها البالغ وقد اكدت له مرة انني قرأت له نصا في مجلة' أبواب' التي كانت تصدرها دار الساقي في لندن فيه اشارة الي حياته فأبدي اندهاشا واضحا غير انه لفت نظري في اخر لقاء بيننا قبل عامين وخلال حفل عشاء أعقب محاضرة القاها في الجامعة الامريكيةبالقاهرة بدعوة من مؤسسة المورد الثقافي بعنوان' الفن وخطاب التحريم' انه بدأ فعلا في كتابة حلقات لموقع' الأوان' الالكتروني يربط فيها بين سيرته وأفكاره وعبر بفرح عن سعادته البالغة ب'مساحة التفاعل' التي أوجدها الانترنت وموقع' الفيس بوك' بينه وبين القراء لافتا الي ان هذا التفاعل مكنه من تغيير نظرته لكثير من الامور. كما سهم في تطويره افكار بحثية كانت تشغله. ومن يراجع تلك المقالات والتعليقات الموجودة أيضا علي صفحته الالكترونية' التي أسماها' رواق نصر حامد أبو زيد سيجد بعض الاشارات للحياة القاسية التي عاشها في طفولته, فنظرا لنشأته في أسرة بسيطة لم يتمكن ابو زيد من استكمال دراسته الجامعية بطريقة نظامية فحصل علي دبلوم معهد اللاسلكي وعمله به لتدبير نفقات تعليمه الجامعي في قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة الذي تخرج منه عام1972 م بتقدير ممتاز, ثم ماجستير من نفس القسم والكلية في الدراسات الإسلامية عام1976 م وأيضا بتقدير ممتاز, ثم دكتوراه من نفس القسم والكلية في الدراسات الإسلامية عام1979 م بتقدير مرتبة الشرف. وفي أوراقه يكتب ابو زيد:' كان حلم الأب أن أواصل تعليمي في الأزهر, بعد أن حفظت القرآن في كتاب القرية. تبين للأب أن المسار طويل والعمر قصير فتحولت إلي التعليم المدني. ازدادت وطأة المرض علي الأب وأنا علي أبواب امتحان الإعدادية, فقرر أن ألتحق بالتعليم الفني وحسنا فعل, فقد وافته المنية في24 أكتوبر1957, أي في بداية العام الدراسي. هذا مكنني من الانخراط في المسئولية التي وضعتني فيها الظروف مسئولية الإبن الأكبر بعد الحصول علي الدبلوم والعمل فنيا لاسلكيا. كانت القراءة متعتي الوحيدة ونافذة التواصل مع العالم لكسر وحدة' اليتم'. كتبت الشعر وحاولت كتابة القصة, لكن نهم القراءة ظل هو الحاكم.' وحسب ابو زيد فان تجربة' اليتم' تمثل مستوي ما من الاغتراب, خاصة في المجتمعات التي تخلو من نظام للرعاية الاجتماعية للمواطن. لكن هذه الغربة كان يخفف منها الحياة في مجتمع يحاول النهوض في السنوات التي أعقبت ثورة1952 التي كانت تمثل الحلم بالنهوض, لكن ملابسات الصدام, الذي حدث بين قادة الثورة وبين القوي الوطنية المختلفة, بسبب مسألة' الديمقراطية', ألقت بظلالها علي وعيي منذ منتصف الخمسينيات. وهذا مستوي آخر للاغتراب, أسماه بداية' الحزن السياسي', لأنه لم يصل أبدا إلي حد التقاطع مع حلم النهوض. هزيمة67 عمقت هذا الاغتراب, وحولت الحلم إلي كابوس. كان انقلاب1970 بمثابة النهاية, وتحول الاغتراب إلي جرح عميق, أعتقد ابو زيد أنه ما يزال ينزف. وقد يكون من المثير بالنسبة لكثيرين ان نصر ابو زيد الذي يزعم البعض انه مفكر علماني كافر بدأ قريبا في شبابه من فكر الاخوان المسلمين حتي انه يقول:' قراءتي في الفكر الديني, قبل الجامعة, كانت لا بأس بها بتأثير فكر' الإخوان المسلمين', الذي تأثرت به في صباي الأول, خاصة كتابات سيد قطب ومحمد قطب. كنت مفتونا بكتابات القطبين عن القرآن والفن, وتفسير سيد قطب' في ظلال القرآن' كان مدهشا ومذهلا بالنسبة لي. إلي جانب فكر الإخوان كنت قارئا نهما للعقاد وطه حسين ونجيب محفوظ. كان ببالي أن أدرس شيئا عن' النظرية الجمالية الإسلامية', متأثرا بكل هذه القراءات. لكن نقطة التحول في حياة أبو زيد جاءت من دراسته علي يد أمين الخولي ومتابعته لأزمة المفكر الراحل' محمد أحمد خلف الله' في دراسته للفن القصصي في القرآن الكريم وكانت بإشراف أمين الخولي, وكيف انتهت بفصله من الجامعة, وبحرمان أستاذه من الإشراف علي رسائل في القرآن. وعلي حد قوله فقد كانت هذه التجربة سببا في تغير توجهاته وقرربعدها أن يكون' ناقدا أدبيا'. ما لا يعرفه الناس كما كتب نصر ابو زيد, أن مجلس قسم اللغة العربية هو الذي أعاده إلي الاتجاه الأول: أعني دراسة القرآن من مدخل الأدب, حيث قرر مجلس القسم أنه يجب تلبية حاجة القسم إلي متخصص في الدراسات الإسلامية, وانتهي الجدال بين نصر ابو زيد وأساتذته الي اقتراح موضوع' قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة' كموضوع لدراسة الماجستير, وخلال انجازه سعي الي تجاوز حدود' التخصص'. ومن يقرأ كتابه الأول, الذي نشر بعنوان' الاتجاه العقلي في التفسير'( المركز الثقافي العربي, بيروت والدار البيضاء, عدة طبعات) يلمس فيه جنوح أكثر نحو منهج التحليل التاريخي الاجتماعي, باعتبار الأفكار ثمرة العلاقة الجدلية بين حركة الواقع وموقف هذا المفكر أو ذاك من هذا الواقع' بعد ذلك انحاز نصر ابو زيد في مسيرته الي لقاعدة التي وضعها المعتزلة قاعدة التأويل المجازي لكل ما يتناقض مع العقل في منطوق القرآن معتبرا ان المتشددين الحنابلة وحدهم هم الذين يرفضون التأويل المجازي, بدعوي أن المجاز قرين الكذب, وأن القرآن منزه عنه. لكن نصر في مؤلفاته بعد ذلك رأي إن إنكار وجود المجاز في القرآن يخل إخلالا بالغا بقضية الإعجاز, التي تعتمد أساسا علي التفوق الأسلوبي والبلاغي للغة القرآن. منطلقا من فكرة جوهرية أوضح اكثر من مرة وهي ان الأساس العقلي للتأويل المجازي الذي وضعه المعتزلة بدأ مسيرة في تاريخ التفسير, لم ولن تتوقف. سيظل الخلاف قائما حول التطبيق, وليس حول القاعدة. في العصر الحديث, وبفضل إسهامات محمد عبده, ثم أمين الخولي, إلي سيد قطب, تطور مفهوم' المجاز' إلي مفهوم' التصوير'. وانطلاقا من خبرته الاليمة في الصدام مع بعض ممثلي التيار الاصولي المتشدد بعد قضية ترقيته الي درجة استاذ والتي انتهت بصدور حكم قضائي بتفريقه عن زوجته في العام1994 استغلالا لثغرات موجودة في قانون الحسبة الذي تم تعديله جزئيا بعد تلك القضية. أمن نصر حامد أبو زيد المشكلة المطروحة علي صعيد العقل العربي تأتي من محاولات تقويض المشروع العقلاني واستبعاده من أفق الخطاب الديني الراهن. ومن اللافت للنظر ان ابو زيد في اول محاضرة له بمنفاه' الهولندي' حرص علي ان يبدأ بالبسملة, وكأنه أراد ان يقول لمستمعيه' إذا أردتم أن تقدروا أنني منشق فأنتم مخطئون' فقد رفض ان يعامل كمضطهد في المجتمع الغربي, وظل دائما يرفض النظر الي نفسه بوصفه' ضحية' وانما كان يري في تجربته' محصلة لتفاعلات مجتمعية عطلت فرص التفكير الحر' وفي مسار آخر لم يكن بعيدا عن تلك التجر الفكرية عمل ابو زيد علي أسس مشروع' تأويل النص القرآني' وليس تفسيره واتجه بعدته الي النص الصوفي مفترضا أن الفضاء الصوفي فضاء روحي خالص. من هنا قام بدراسة' تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي'. لكن النتائج لم تختلف كثيرا, ومن يتذكر محنة ابو زيد مع خصومه لا شك يتذكر النقاش الذي اثاره كتابه' مفهوم النص, دراسة في علوم القرآن الكريم' الذي صدر في سلسلة دراسات ادبية عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ونوقش في ندوة عامة بمعرض الكتاب شارك فيها الناقد الكبير الراحل شكري عياد وفي هذا الكتاب طور ابو زيد مشروعه المثير للجدل باتجاه تاليف كتابه'' مفهوم النص' وفيه اعتبر القران نصا' يمكن تأويله وفق إجراءات منهج تحليل النص, باعتبار النص أساسا' بناء لغويا' ثقافيا/تاريخيا, وفي دراساته التي اعقبت هذا الكتاب طور ابو زيد هذا المفهوم في السنوات الأخيرة, وكما كتب': جاء ذلك بعد إدراكي أن مفهوم النص يتضمن مفهوم' المؤلف', كما يتضمن مفهوم' الوحدة' القائمة علي التناسق البنيوي للأجزاء, هذا فضلا عن مفهوم' القصد'.' وفقا لتحليل الطبيعة التداولية للنص القرآني انتهي ابو زيد الي القول بأن القرآن الكريم مجموعة من' الخطابات', التي تم جمعها وترتيبها بشكل لم تكتشف أسسه بعد, نتيجة التسليم بأن هذا الترتيب' توقيفي', أي أنه ترتيب إلهي. لكن هذا التسليم' الإيماني' لا يعني أن البحث عن' علته' يناقض الإيمان, فالبحث عن العلة هو محاولة لاكتشاف' الحكمة الإلهية' وهذا من صميم الإيمان.كما كان يعتقد وبعد أزمة تفريقه عن زوجته الدكتورة ابتهال يونس واضطراره الي العيش في هولندا حيث عمل استاذا للدراسات الاسلامية بجامعة ليدن عمل ابو زيد علي الاقتراب اكثر من المناطق الملغومة في العلاقة بين الفكر الديني والفكر السياسي وناقش في مؤلفاته قضايا معاصرة وعلي رأسها قضية' الاصلاح الديني' وكان الراحل يعتقد جازما ان القوي الاسلامية انتصرت في الواقع عبر أسلمة المجتمع والدولة, دون الوصول إلي السلطة. وهذا يفسر حالة التراوح في تقديم برنامج سياسي لخوض الانتخابات من جانب المعارضات الإسلامية. إن شعار' الإسلام هو الحل' كاف ما دام النظام السياسي يحول الشعار إلي سياسة. وتأسيسا علي هذه الرؤية سعي ابو زيد الي بلورة خطاب علماني قائم علي الايمان بأن العلمانية التي تفصل بين الدولة ونظامها السياسي وبين الدين هي وحدها التي يمكن أن تفتح آفاقا للحرية والعقلانية وتعدد المعاني. فالدين شأن المتدينين, ومهمة الدولة أن تضمن حرية الجميع,. لكن العلمانية كما كان يقول- لا يمكن أن تتأسس دون الإصلاح الديني و تأكيد' المواطنة'. بعد تحرر الإنسان من نير الطغيان السياسي.