كما كان متوقعًا، لم يتمكن البعض من كتمان فرحتهم بوفاة المفكر نصر حامد أبو زيد، لم تستطع نفوسهم إخفاء شماتتهم في موت شخص لم ينكر أبدًَا إسلامه وتوحيده بالله، شخص كان دائم الحرص علي أن يستهل كلامه بالبسملة، لكنهم تحت سيطرة منهجهم الخاطئ، تسابقوا في تقريظ الرجل بعد وفاته مثلما فعلوا في حياته، راحوا يحاسبونه وهو بين يدي رب كريم، تناسوا الحديث النبوي الشريف «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة» وهم يعلمون أن أبو زيد كررها مئات المرات. أحد المواقع الإسلامية إياها تجاوز حدود اللياقة حين نعت الرجل المتوفي ب «الهالك»، بل حمد الله علي نهايته تلك. أكثر من ذلك أن هذه المواقع الغريبة اعتبرت وفاة أبو زيد ب «بفيروس غامض» عقوبة إلهية ينزلها الخالق علي من يتجرأ علي ذاته، وكأن الموت بفيروس غير غامض ليس بالعقوبة الإلهية.. لم ينتبه هؤلاء إلي أن نصر حامد أبو زيد، أصيب بالتهاب فيروسي غير معد في المخ كان ممكنًا علاجه، وهو التهاب من الجائز أن يصيب المؤمن وغير المؤمن، ثم أليس المؤمن مصابا وقد يبتليه الله بالمرض، أم أن ذلك لا ينطبق بأي حال علي أبو زيد؟!... سبحان الله!! مشكلة نصر حامد أبو زيد مع الكثيرين، أنه تبني الاتجاه العقلي في التفسير والتزم بمنهج التحليل التاريخي الاجتماعي، وكان يعتقد أن التأويل المجازي لكل ما يناقض العقل في منطوق القرآن الكريم، هو القاعدة الراسخة التي ينبغي اتباعها، تأسيسًا علي أن الفكر الإسلامي استفاد منذ نشأته وعلي مدي أربعة عشر قرنًا من هذه القاعدة، وأن إنكار وجود المجاز في القرآن الكريم من شأنه أن يخل إخلالاً واضحًا بمسألة الإعجاز القرآني المتمثل في ذلك التفوق الأسلوبي والبلاغي، وأن هذا الأساس العقلي للتأويل المجازي الذي سبقت إليه «المعتزلة» قبل ردح من الزمان، لم ولن يتوقف، وأن الخلاف كان ولا يزال متعلقًا بالتطبيق. ظل نصر حامد أبو زيد متمسكًا بقناعاته بأن معضلة الفكر الديني في العالم الإسلامي تتركز في محاربة المشروع العقلاني واستبعاده من أطروحات الخطاب الديني، وهو في ذلك لم يستغرب الصدام الذي أوقعه ضد من يتبنون خطابًا دينيًا ذا تصور واحد، علي اعتبار أن الصدام مع هؤلاء موجود في تاريخ جميع الأديان. كان أبو زيد أشجع كثيرًا ممن عارضوه وكفروه، حين طالب بتحرير الناس من الفكر الجامد، وحين دعا إلي تشكيل مناخ سياسي يتيح تداول السلطة، مفضلاً تحرير العقول علي تحرير الاقتصاد، منتقدًا السلطات التي تركز علي الاقتصاد الحر بينما تهمل حرية التعبير والحق في التعليم وتختصر الحرية في حق التصويت بصناديق الاقتراع. لم تكن لدي أبو زيد مشكلة مع التراث الديني، وهو نفسه نفي أن يكون قد هاجم الإسلام أو القرآن الكريم، كما رفض أن يصبح منشقًا أو أن يُعامل كمضطهد في هولندا حيث أقام خمسة عشر عامًا بعيدًا عن وطنه، وطنه الذي خذله بأن سمح بتكفيره وبتفرقته عن زوجته بحكم محكمة في منتصف التسعينيات، في وقت كانت فيه الدولة تصارع تيارات دينية متطرفة، ففضلت أن تزايد بهذه القضية في معركة سياسية واضحة لكسب الرأي العام علي حساب حرية التعبير. هو ذاته نفس الأسلوب والدافع الذي يحرك الدولة فتقبض علي مجموعة تتهم زعيمهم بادعاء النبوة وازدراء الأديان، رغم علم الجميع بأن هذه المجموعات لا قيمة ولا وزن ولا تأثير لها في المجتمع. ربما حاول نصر حامد أبو زيد في أيامه الأخيرة تلطيف الأجواء والتخفيف من وقع الصدمات التي ولدتها كتاباته وأفكاره السابقة، مما ساهم في تسهيل عودته إلي مصر مرة أخري في ظل أجواء سياسية ومجتمعية مختلفة، فرأينا مكتبة الإسكندرية - بما لها من مكانة فكرية ووضع رسمي - تفسح له المجال ليتحدث عن التفسير اللاهوتي للقرآن الكريم كما قدمه «المعتزلة»، كما دافع عنه كثير من المثقفين حين رفضت الكويت دخوله إليها بضغط من التيار الإسلامي السلفي داخل برلمانها. وبرغم بلوغ أبو زيد النهاية المحتومة لكل كائن في هذا الكون دون أن يحقق حلمه بالاستقرار في مصر ودون استعادته منصبه الأكاديمي، فإن عزاءه تمثل في تحلي كبار علماء الأزهر الأجلاء بالحكمة، ودعائهم له بالرحمة والمغفرة، بل إن الدكتور عبد الصبور شاهين - الذي كان أول من لفت الانتباه لكتابات أبو زيد المثيرة للجدل - اعترف بأنه لم يكفره علي الإطلاق، وكيف يكفره وقد اكتوي شاهين نفسه بنار اتهامه بالكفر حين أخرج كتابه «أبي آدم» قبل سنوات!. عزاء نصر حامد أبو زيد الذي كافح في ظروف أسرية صعبة حتي بلغ مكانته الفكرية والعلمية، أنه اجتهد في مجتمع توقف عن الاجتهاد وامتنع عن نعمة التفكير لصالح نقمة التكفير فارتضي بمكانته الراهنة بين الأمم. عزاء نصر حامد أبو زيد أن أعماله، بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها، ستظل باقية وسوف تثير بعد مماته جدلاً مثلما أثارت في حياته، وأجره علي اجتهاده عند الله وحده.