تمر مصر في الوقت الراهن بمنعطف سياسي خطير ما بين إرهاصات صياغة الحياة السياسية للدولة في المستقبل والحاجة إلي نقلة اقتصادية هائلة تنتشل البلد من أزمة طاحنة لن يدفع فاتورتها إلا المواطن المصري البسيط الذي دأب علي العيش في شظف يوم بيوم تداعبه الأحلام أن ينفرج فيه الحال في اليوم القادم بنظام حكم يعمل لصالح المواطن بآليات سياسية حقيقية لا نظام هيكلي يعمل لتدعيم سلطانه الظالم ويوطد لرجاله الفاسدين. من هنا تأتي الإشكالية التي تواجه أي رئيس قادم لمصر وهي كيف يمكن له أن يدعم ما جاء بالدستور الجديد المزمع الاستفتاء عليه خلال أيام وكيف يعمل في نفس الوقت علي تدعيم سلطانه بكسب شعبية حقيقية وصادقة بين الناس في ظل منظومة محلية فاسدة ترتع في أوصال البلد فسادا منذ ما يقرب من قرن؟ مع مطلع الخمسينيات واندلاع ثورة23 يوليو كانت هناك حتمية سياسية أمام الزعيم جمال عبد الناصر عليه أن ينجزها فالثورة تسلمت دولة كيانها الاقتصادي متهالك والأوضاع السياسية في غاية السوء, هذه الحتمية تمثلت في إيجاد مشروع قومي يكون له تأثير مباشر علي الاقتصاد المصري وينقل البلاد نقلة اقتصادية تقدمية كبيرة نحو المستقبل. واستهل الرجل حكمه بعدة قرارات سيادية كان أولها إصدار قانون الإصلاح الزراعي ثم ضرب ضربته الكبري بقرار تأميم قناة السويس لكي يتمكن من بناء السد العالي علي نهر النيل في أسوان. وبدا نهر النيل وقتها رمزا لمرحلة جديدة في مستقبل مصر فهو لا يمثل مصدرا للمياه بقدر ما هو شريان حياة متكاملة وهذا ما فطن له عبد الناصر فانبري يبني علي النيل سدا تحول إلي مشروع قومي صنع به نجوميته السياسية وحتي عندما واجهته الدول الاستعمارية ومعها إسرائيل وحاولت إجهاض مشروعه بشتي السبل وجرجروه لمواجهة عسكرية لم يفلحوا فيها وتحول العدوان الثلاثي علي مصر وقتها إلي ملحمة وطنية وعسكرية ضاعفت من مجد عبد الناصر وقوميته. وما أشبه الأمس باليوم فمصر تعيش نفس المعترك السياسي الذي مرت به في الستينيات وعلي الرئيس القادم أن يوجد لنفسه مشروعا قوميا ينتشل به مصر من مستنقع الفتنة الذي غرقت فيه وأشعل فيها صراعا لا طائل منه غير دمار هذا البلد ودفعها دفعا إلي حرب أهلية تأكل في طريقها الأخضر واليابس. وإرهاصات هذا المشروع بدأت تطفو علي السطح من رحم أزمة سد النهضة في إثيوبيا التي ثار حولها جدل كبير فيما قبل فترة حكم الإخوان المسلمين وما بعدها. هذا المشروع الحلم الذي يحمل في قلبه فكرة المشروع القومي الذي يمكن للأمة أن تجتمع عليه ويكون له التأثير المباشر علي شكل الحياة السياسية والاقتصادية في مصر هو مشروع ربط نهر النيل بنهر الكونغو الذي أعلن عنه في مؤتمر صحفي عقده الدكتور إبراهيم الفيومي رئيس فريق العمل بمشروع تنمية إفريقيا وذلك في كلية الهندسة جامعة القاهرة منذ أيام قلائل والذي أكد فيه أنه تم توقيع بروتوكول تعاون مع كلية الهندسة جامعة القاهرة من أجل المشاركة في تنفيذ الدراسات الخاصة ببدء مشروع لربط نهر النيل بنهر الكونغو برءوس أموال مصرية خالصة. وكان الرجل وطنيا إلي حد كبير وهو يطرح هذا المشروع القومي خاصة وأنه تحدث عن التمويل الخاص بالمشروع لافتا أنه سيكون وطنيا خالصا حيث تمت دراسة طرحه للاكتتاب الشعبي ودعوة رجال الأعمال المصريين الراغبين في المشاركة لأن يسهموا بأموالهم في تنمية مصر والتقدم بها نحو المستقبل بخطي واثقة. ولم يكن هذا المؤتمر الصحفي مجرد فكرة تطرح بقدر ما كان مولودا حقيقيا دبت فيه روح العمل الجاد حتي يكبر ويصبح عملاقا يوما ما فقد انتهي فريق العمل القائم عليه وهم من خيرة عقول مصر العلمية من تصميم محطات رفع عملاقة تصل إلي105 أمتار للتغلب علي مشكلة الارتفاعات التي تعيق توصيل النهرين وهذا ما دفع رئيس فريق العمل أن يحمل مشروعه ويعرضه علي الجهات السيادية في البلد ووزارة الدفاع والمدهش أن المشروع لاقي دعما كبيرا من الفريق أول عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع إلا أنه لم يحظي بنفس الاهتمام من الحكومة المصرية التي تخوفت منه لحسابات سياسية وتفاديا لأزمات دولية قد تحدث متجاهلين أن مشروع الربط هذا سيترتب عليه توفير ما لا يقل عن120 مليار متر مكعب من المياه المهددين باندثارها مع توسعات الإثيوبيين ومشروعاتهم المائية التي بدأت بمشروع سد النهضة. إن نهر الكونغو يا سادة يضخ بطبيعة الحال نحو42 ألف متر مكعب تهدر في الثانية الواحدة تبعا للإحصائيات المعلنة عن حجم المياه فيه وهذا الهدر يوجد ممرا داخل المحيط طوله نحو130 كيلو مترا مربعا وفي الوقت نفسه أثبتت الدراسات المائية والجيولوجية والسياسية التي أجراها فريق المشروع أن هناك تماسا لحوض نهري النيل والكونغو وأن نهر الكونغو محلي وليس نهرا دوليا وهو ما لا يعيق إجراء مشروع بهذا الحجم لا يتعارض مع الاتفاقيات الدولية وخاصة اتفاقيات المياه. لذلك علي من تحمله الأيام رئيسا في الفترة المقبلة أن يتبني مثل هذه المشروعات تدعيما لأواصر حكمه وسعيا وراء بناء دولة مصرية جديدة باقتصاد قومي كبير خاصة أن مشروع كهذا لن يخرج للنور ويطفو علي سطح الحياة إلا بقرار سيادي.