رغم خوف يعقوب علي صغيره الحبيب يوسف, ورغم عدم إخبار يوسف إخوته بما رآه في منامه, فإنهم اجتمعوا يتآمرون عليه, لتنفذ إرادة الله, ويمضي قدره المحتوم في طريقه, فهاهم إخوة يوسف يجهرون لبعضهم بما يحملون من ضغينة ليوسف وأخيه, يقولون: ليوسف وأخوه أحب إلي أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين, إذ كيف يفضل صبيا صغيرا علينا, ونحن رجال أقوياء قادرون علي الكسب والعمل, ثم يتدخل الشيطان بينهم ليؤجج في قلوبهم الحقد والكراهية, ويوسوس إليهم بقتل الطفل الصغير البريء, فقالوا: اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا, أي ألقوه في أرض بعيدة فيموت جوعا وعطشا أو تأكله السباع, وحينها يخلو لكم وجه أبيكم, ويختصكم بحبه بعد أن يفرغ قلبه من حب يوسف. هكذا زين الشيطان لإخوة يوسف هذه الجريمة البشعة, وهاهم يجهزون للتوبة بعدها, يقولون: وتكونوا من بعده قوما صالحين, تتوبون إلي الله وتعملون الصالحات فيغفر لكم, ولكن التوبة ليست هكذا, هذا استهزاء بالله عز وجل, التوبة تكون من الجريمة التي يقع فيها الإنسان في لحظة ضعف أو حالة جهل, حتي إذا تبين له ندم وآب إلي ربه تائبا. وفي هذه اللحظة يرق قلب أحد الإخوة, فيقترح حلا يخلصهم من يوسف, ويبقي علي حياته في نفس الوقت, يقول: لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة, وكان هذا حلا وسطا, فأجمعوا عليه, وذهبوا يعدون الخطط للإيقاع بيوسف والخلاص منه. اجتمع الإخوة عند أبيهم يعقوب, يراودونه في اصطحاب يوسف معهم, وكان لا يفارقه أبدا محبة وخوفا عليه, قالوا: يا أبانا ما لك لا تأمنا علي يوسف؟, يخادعون أباهم, ويوهمونه أنهم يعتبون عليه عدم ترك يوسف معهم, وإنا له لناصحون, فهو أخونا الصغير, ومحبته في قلوبنا, ونحن نهتم بأمره, يم يطلوبن من أبيهم أن يسمح ليوسف بالذهاب معهم إلي البرية حيث يرعون الأغنام, ليمرح ويلعب ويستمتع بهواء البرية النقي وشمسها الساطعة, فيرد يعقوب عليهم: إني ليحزنني أن تذهبوا به, فأنا لا أطيق فراقه, وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون, فإذا ضحكة صفراء تعلو وجوههم, ويشعرون بدنو تحقق مرادهم, فيطمئنون الأب القلق علي ابنه, مؤكدين أن هذا لن يحدث, فكيف يتعرض لسوء وهم عصبة من الرجال الأقوياء القادرين علي حمايته, ولئن حدث هذا فهو الفشل الذريع لهم والخسران المبين. استسلم الوالد الحريص إلي رغبتهم, وجاء الغد فاصطحبوا الصبي معهم, واستقر رأيهم علي تنفيذ خطتهم الخبيثة, وألقوا بالصبي في غيابة الجب, لم يهتز لهم جفن ولم تتحرك فيهم عاطفة الأخوة, وأكملوا تمثيليتهم البغيضة, فذبحوا شاة, ولطخوا قميص الصبي بدمها, وجاءوا أباهم عشاء يبكون, ينتحبون ويلطون وجوههم, قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب, فكأن يعقوب عليه السلام قد لقنهم حجتهم, وأعطاهم العذر من قبل, فاتهموا الذئب تأكيدا لمخاوف أبيهم, ولأن المريب يكاد يقول خذوني, والكاذب يعرف أنه لا أحد يصدقه, قالوا لأبيهم: وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين, وقربوا لأبيهم قميص يوسف وقد لطخوه بدم كذب, فعجب يعقوب منهم, كيف يأكل الذئب إنسانا ولا يمزق قميصه, قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان علي ما تصفون. في الجب أوحي الله إليه يوسف ألا يخاف ولا يحزن, مبشرا له بأنه ستكون له اليد العليا عليهم, وأن رؤياه ستتحقق, وسيأتي اليوم الذي ينبئهم فيه بأمرهم, وهو لا يعرفون أنه الصبي الذي ألقوه يوما في الجب حتي يتخلصوا منه.