آه يا أستاذ مأمون أراك تمشي ببطء كأنك سلحفاة عجوز تتوكأ علي عصاك التي لك فيها مآرب أخري حينما تهش بها الكلاب الضالة حين تجوب شوارع المدينة ليلا كأنك الباحث عن شيء لا وجود له تلفح وجهك شمس بؤونة فتتوقي لهيبها الحارق حينما تضع جريدة اليوم فوق رأسك.. ثم تومئ برأسك إلي اتجاهات عدة كأنما تفاضل بين الاتجاهات المختفلة فتقودك قدماك إلي أقرب مكان للظل, تتوقف لتمسح عرقك الذي تصبب بغزارة علي وجهك الذي امتصته الأيام.. تحاول مقاومة إجهادك بالجلوس علي أقرب طوار يصادفك ثم تخرج علبة سجائرك تلتقط بأصابعك واحدة تلو الأخري وتظل تتابع الدخان الخارج من فتحتي أنفك بتأن لافت.. ثم تخرج من جيب جلبابك بعض ألواح البسكويت تقضمها بين ما تبقي من أسنانك.. وقبل أن تطالع جريدتك يداهمك الغبار الناتج عن مروق السيارات والمارة من حولك فتمسح بمنديلك العتيق زجاج نظارتك لتتضح أمامك الرؤية بعض الشيء, فتظل تفرك في عينيك كأنك تبعث فيهما الروح بعد ما عانتهما من الضعف والذبول.. تأخذك المانشيتات الكبيرة المدونة بكل صفحات الجريدة, وفي النهاية كعادتك كل يوم تضع الجريدة في مكان ظاهر عسي أن يتصفحها غيرك.. وتواصل عزفك علي أوتار الخطوات حتي تغيب عن العيون.. وتواصل دقات طبول الماضي إيقاعها برأسي فألمحك صغيرا تحتفظ بما لديك من قروش تضعها عادة في يد بائع الكتب القديمة وتعود إلي بيتك مزهوا تسبق قدماك الريح حيث تأوي في ركن بعيد تلتهم السطور التهاما فتعمرك النشوة بين رحابها.. وتظل هكذا تدفع وتشتري فتقرأ قتصير فرحا بما فعلت.. كنت مميزا بين رفاقك الذين سيطر علي عقولهم اللهو.. أما أنت فلم تعرف للهو طريقا, تمنيت أنك تمتلك المال لاشتريت بها كتبا. من يومك وأنت متفتح العقل متقد الذهن.. قرأت كل كتب التاريخ.. ودخلت في دهاليز السياسة.. تعرفت علي أفكار الفلاسفة والعلماء.. حفظت الشعر الجاهلي والأموي والعباسي حتي وصلت إلي الشعر الحديث.. قرأت الآداب العالمية.. الروسية والفرنسية والإنجليزية.. والتهمت أمهات الكتب في شتي المجالات.. كم أشدت بأرخص ليالي ادريس, ثلاثية محفوظ وجراجي الأبنودي.. أنت لا تملك من حطام الدنيا إلا بيتا طينيا صغيرا به ثلاث حجرات ضيقة.. جعلت حجرة للكتب.. وحجرتين لك ولأسرتك.. كنت أول ما تفعله حين تدلف إلي الفصل تدون علي السبورة أقرأ باسم ربك الذي خلق ثم تبدأ شرح دروسك.. تخرج من تحت يديك مشاهير المحامين والأطباء.. وحظيت باحترام الناس.. صارت أراؤك نبراسا لمن ضل الطريق... في البدء كانت مصيبتك حين عدت إلي بيتك لتجد كتبك متنأثرة تحت أرجل الكراسي وتحت الأسرة وفوق سطح البيت بينما الأرفف الذي تحملها صارت قطعا صغيرة تستخدمها زوجتك لتدفئة البيت في ليالي الشتاء.. ومصيبتك التي أطارت عقلك أن زوجتك قد ضاقت ذرعا بك وبكتبك فباعت كل الكتب إلي بائع الروبابيكيا واشترت بثمنها عنزة لعيد الأضحي من عند جارك الشمندي تاجر المواشي والذي يكن لك ولأمثالك كل البغض والاستهانة.. أذكر أنك يومها قد أصابك الذهول من هول ما حدث.. ولما تصادف أن قابلك تاجر المواشي رابع أيام العيد قال لك: كل ثروتك بالكاد اشترت لك عنزة.. آلمك كثيرا فراقك لكتبك ولرائحتها القديمة التي تتحدي العالم بأسرة إنها أجمل رائحة عرفها التاريخ. لايمكن أن أنسي أبدأ اللحظة التي جئتني فيها يا أستاذ مأمون: وقد استبد بك الغضب تلوح بيديك في الهواء فصرت كطائر يهفو بجناحيه.. حينها بدأ الوجوم علي وجهك وأغر ورقت عيناك بالدموع لما صوبت ناظريك شطر وجهي لتسألني. أبائع الفكر.. أم بائع الثور...؟ كنت أتمني أن أجيبك علي سؤالك هذا يا أستاذ مأمون لولا ان قيدا جثم علي لساني فحجب عني القدرة علي النطق.. ولولا أن سحابة سوداء خيمت علي وجهي فسلبت مني القدرة علي الإبصار. محمد الحديدي المحامي الشرقية