ليست سحابة تلك التي عيونها تبكي, ولا الذي يهمي مطر. هذا شواظ حارق من رحم الارض ابتدا, ومن تصدع الحجر. من غضبة يحملها الرعد كأنها صرخة كون يحتضر, لفح جحيم يستعره ومن فساد عارم, يدق ناقوس الوباء والخطر, علي جناية البشر. وأنت ياصديقي الجميل شاهد علي الذي مضي, وعالم بسر ما انطوي, تحت الرماد, وعبر. تنوء بالحمل الذي يئودنا من الصغر. وانت, مثلي, عاكف علي تأمل الوجوه والظلال والصور. تقرأ فيها سيرة العمر الذي يوما طويناه معا, ونحن مدموغون بالاعلام والشكوك والحذر. وفجأة تسربت اوراقه كأنه ما كان يوما ضيفنا. ولم نكد نحياه. كل شيء راحل, وهالك, وممعن في عاره, يكاد من حشو الهموم والسموم ينفجر. هل أنت راحل كأمس, حينما التقينا دون موعد؟ طائرتان توشكان ان تغادرا, كل لوجهة, والوجهتان في المسافة القصية التي ينشطر العالم فيها, عندما يصير عالمين. ساعتها, تشبثت عيناي بك, الحلم في عينيك شاخص يقول إنك اعتزمت ما انتويت. وإن في فضائك الجديد يقبع الصوت الذي سينطلق. ضاقت به المدينة الكبيرة الموبوءة. لكنه هناك في ليالي لندن التي وجدت فيها ضالتك, ينداح في أثيرها الي الوجود كله, منطلقا يشده الزهو الجميل للمغامرة. في كل موقع مكانك المقدمة. وكل لحظة تمر, تكتسي فيها بداية جديدة لعالم فريد. سرعان ما صنعته وذبت فيه, وصار بيتك الانيق واحة الذين يأنسون لك. كأنه السفارة التي يقصدها الجميع, وقلبك النبيل واسع ويتسع. لكل من يلوذ باحثا عن حلمه الذي يشده اليك, تمنحه إشارة البداية. تضيئه بشحنة الأمل, تبث فيه من إرادة الحياة فيك, شاخصا كأنك المثال للذين يعرفون كيف يحلمون, وكيف ينفذون في السدود والصعاب, واثقين من بشارة الغد القريب. وهكذا مضيت. يسبقك اسم من ذهب. وعطر كل من زرعت فيه بذرة الأخوة الحميمة, يضئ ذكرك الوطن. وحينما أتيتنا بعد اغتراب طال كي تكون بيننا يملؤك الحماس, والاحلام, لم تزل كعهدنا بما نراه فيك من تفاؤل ومن حفاوة ومن رضا وجذوة اهتمام. ثم اختفيت كي تعود كوكبا يضئ للذين يدلجون في متاهة الاعلام وسط ظلمة كثيفة. ساعتها أشفقت من حماسك الشديد, من إصرارك العنيد, من إحساسك الجديد. كأن ما تغوص فيه دون ان تحس يستحق منك كل شئ. كنت اري نهاية المسار بينما عيناك تشرقان بالوعد الذي قطعته, والامل الذي صنعته, والنهضة الكبيرة التي عما قريب تنطلق. وأنت عاكف علي الذي بدأته تريده ان يكتمل. وهم يريشون السهام والنبال حول رأسك الوديع كل يوم. ويحفرون في طريقك القويم ألف حفرة, لعلها تخفيك عن عيونهم, ويقطعون من خيوطك الموصولة العطاء ما يخيفهم, ويكشف الغباء, والجهالة العمياء. وحينما استنفدت, كان نفيك المباغت اللئيم, لحظة تدمر الخلايا, وتفسح المجال للمرارة التي يصحبها التأمل الحزين. ها أنت في خاتمة المطاف تدرك الذي كان يقال لك, تكتشف الذي سمعته من البداية, ولم تكن تريد أن تري الذي نراه ساطعا, لأنه وجه الفساد والتخلف المهين, وأنت لا تصدقه. أو تسمع الذي يوشك ان يصك سمعك المفتون, مستحيل ان يكون, هكذا تقول. الآن هذي لحظة مريرة تقود للجنون. في آخر اتصال منك, كانت الحياة غضة في رنة الصوت الذي لم ينكسر. أحسست أنك استعدت وجهك القديم, وجهك الذي أحببته, وروحك التي تفيض بالمودة الحميمة. ولم أكن أدري بأنها بداية النهاية. وأن داءك اللعين قد أصاب منك مقتلا. وأنت في نيويورك تسعي جاهدا لصد الهجمة الاخيرة. ولم تكن تدري بأن لحظة الوداع قد دنت, وأنها قد ذكرتك بي حين اتصلت. كأنما تريد أن تقول لي وللكثيرين الذين قد عرفتهم, صادقتهم, أحببتهم وهم بدورهم قد عرفوك, صادقوك, أسكنوك في قلوبهم وفي عيونهم : غدا أعود مثلما قد عدت دوما هازئا بهم, وظافرا بكل ما أحمله من الرجاء والوعود. ولم تعد. المزيد من مقالات فاروق شوشة