ما إن يبدأ ناقد بالكتابة أو الحديث عن سرد نثري أو شعري، حتى يسرد لنا نظريات البنيوية والتفكيك، ومقولات تودوروف تزفيتيان وجيرار جينيت ودريدا.. وغيرهم وكأنهم العباقرة الأوصياء على الأدب العربي. ولكنني أريد أن أبدا في قراءتي لديوان الشاعر د.محمد حلمي الريشة الصادر مؤخرًا بعنوان "أَيُّهَا الشَّاعِرُ فِيَّ" دون الاستعانة بالعباقرة الغر الميامين، وذلك بالتعرف عليه، بصفته شاعرًا وباحثًا ومترجمًا، من مواليدُ نابلُس- فِلسطين، نالَ درجةَ الدكتوراه في الأَدبِ العربيِّ، وانتقلَ للعملِ في "بيتِ الشِّعرِ الفلسطينيِّ"، وتفرَّغَ للعملِ الشِّعريِّ والأَدبيِّ والثَّقافيِّ، ويعملَ رئيس تحرير مجلة مشارف الثقافيّة المقدسية، الصادرة عن (القدس عاصمة الثقافة العربية)، ويشاركُ في المؤتمراتِ والنَّدواتِ المحليَّةِ والعربيَّةِ والدَّوليَّةِ. تُرجمتْ لهُ نصوصٌ شعريَّةٌ ونثريَّةٌ إِلى اللُّغاتِ الإِنجليزيَّةِ والفرنسيَّةِ والبلغاريَّةِ والإِيطاليَّةِ والإِسبانيَّةِ والفارسيَّةِ والأَلمانيَّةِ. وقامتْ جامعةُ عبدِ المالكِ السَّعدي فِي المغربِ بتسميةِ (جائزةِ الشَّاعرِ محمَّد حلمِي الرِّيشة) للشُّعراءِ الجامعيِّينَ الشَّبابِ (2010). ونالَ جائزةَ المهاجرِ العالميَّةِ للفكرِ والآدابِ والفنونِ فِي ملبُورن- أُستراليا فِي حقلِ الشِّعرِ لموسمِ العامِ (2011) واختيرَ شخصيَّةً ثقافيَّةً للعامِ (2011) مِن قبلِ جريدةِ المهاجرِ ومنظَّمةِ المهاجرِ العالميَّةِ للفكرِ والآدابِ والفنونِ فِي ملبُورن- أُستراليا. وقامتْ جمعيَّةُ النِّبراسِ فِي المغرب بتسمية (جائزةِ الشَّاعرِ محمَّد حِلمي الرِّيشة العربيَّةِ للتَّلاميذِ الشُّعراءِ) (2014). وبعد هذه المقدمة التي فتحت الشهية للمتابعة، نسعد بتعريف القراء بقراءة أشعاره التأملية، التي قد تتنتمي إلى أشعار الهايكو اليابانية، التي تتألف من بيت واحد فقط، يتميز ببساطة التعبير والمشاعر الجياشة والأحاسيس العميقة، وتأتي منسجمة مع عصر السرعة، ومندغمة مع عصر العولمة، مثل فن الأقصوصة،أو القصة القصيرة جدًا، مختصِرة للفكرة ومكثفة لها. وقد يندرج هذا الأسلوب تحت مسمى أشعار ما بعد الحداثة، إذ ينتقل أسلوبها إلى التأمل، بدل اعتمادها على الموسيقا والقافية الكلِّية أو الجزئية، ولكننا نستشف من هذه الأشعار أفكارًا تبوحها الذات الإنسانية، أو مشاعر خاصة بالشاعر الريشة، أو بالإنسان العربي عامة، أو الإنسان الإنسان بشكل عام. وذلك يظهر في قصيدته الافتتاحية للديوان: "لاَ أَحدَ منَ العاديِّينَ يُمكِنهُ أَن يفقَهَ غيرَ العاديِّ؛ الشَّاعرَ!" وقد يقصد هنا أن الشاعر هو حالة خاصة، لا أحد يعرف أنه غير عادي سوى نفسه، مثل الفيلسوف نيتشة الذين قالوا له: " ألا ترى أنك مختلف"؟ فقال لهم: "ألا ترون أنكم متشابهون"؟ لا أقصد أن الشعراء المختلفين عن غيرهم بمقام نيتشة، ولكن كل مفكر مبدع حقيقي هو مختلف عن باقي الناس، سواء في مفاهيمه، أو في سلوكه، وفي قبوله أو رفضه للأشياء. وهناك تفسير آخر هو أن الشاعر وحده من يدقق في الأشياء، ويتأملها ويفقه غير العادي منها. ترى هل هذه المشاعر هي حقيقة؟ هل هو غرور الشاعر؟ أم هي كما قال أبي: "كل واحد عقله في رأسه مدينة"؟ وفي قصيدته صفحة 34 يقول: "لَا مَفَرَّ مِنْ مِنْفَضَتِهَا، وَإِنْ عَرْجَاءُ، تَتَقَدَّمُ نَحْوِي لِأُطْفِئَ فِيهَا سَاقَ سِيجَارَتِي قَبْلَ اكْتِمَالِ احْتِرَاقِهَا، وَانْطِفَاءِ جَسَدِي." فهذين السطرين، كما فهمتهما، هما تعبير عن مشاعر ذكورية إنسانية تجاه الأنثى، يصعب شرحها، وإن كانت واضحة وضوح الشمس.. وأما قصيدته في ص 36، والتي يقول فيها: "ثَمَّة كَائِنَاتٌ، مِنَ (الغَسَاسِنَةِ وَالمَنَاذِرَةِ)*، أَسْتَطِيعُ القَفْزَ عَنْهَا؛ فَقَطْ -لِأَنَّهَا ارْتَضَتْ أَنْ تَظَلَّ وَاطِئَةً!" فهو يستخدم الشعر للتعبير عن فكرة رضوخ، تعود بنا إلى التاريخ. تاريخ الغساسنة العرب، الذين كانوا راضخين للغرب، والمناذرة العرب الذين كانوا راضخين للشرق، وبذلك ظلوا حسب تعبير الشاعر "واطئين" وكما نقول باللهجة العامية(حيط واطي). وفي هذه القصيدة نلاحظ توظيف الشاعر الريشة للشعر، في توضيح ما نعيشه اليوم من تخاذل عربي أمام الأعداء- حسب مفهوم الشاعر- فبذلك تخلى الشعر عن الموسيقا والنغم، بينما قدّم الفكرة والمقصود. ولا ننسى أن نذكر أن للشاعر الريشة، عددا من الدواوين الشِّعْرِيَّةُ: الخَيْلُ وَالأُنْثَى (1980)، حَالَاتٌ فِي اتِّسَاعِ الرُّوحِ (1992)، الوَمِيضُ الأَخِيرُ بَعْدَ التِقَاطِ الصُّورَةِ (1994)، أَنْتِ وَأَنَا وَالأَبْيَضُ سَيِّءُ الذِّكْرِ (1995)، ثُلَاثِيَّةُ القَلَقِ 86-90 (1995)، لِظِلَالِهَا الأَشْجَارُ تَرْفَعُ شَمْسَهَا (1996)، كَلَامُ مَرَايَا عَلَى شُرْفَتَينِ (1997)، كِتَابُ المُنَادَى (1998)، خَلْفَ قَمِيصٍ نَافِرٍ (1999)، هَاوِيَاتٌ مُخَصَّبَةٌ (2003)، أَطْلَسُ الغُبَارِ (2004)، مُعْجَمٌ بِكِ (2007)، كَأَعْمَى تَقُودُنِي قَصَبَةُ النَّأْيِ (2008)، قَمَرٌ أَمْ حَبَّةُ أَسْبِيرِينٍ (2011)، أيُّهَا الشَّاعِرُ فِيَّ (2015). وصدرت له طبعة بعنوان "الأَعْمَالُ الشِّعْرِيَّةُ- ثَلاَثَةُ مُجَلَّدَاتٍ" (2008)، وللحديث بقية.