نواكا فوكامى مستعربة يابانية أخرى نروى سيرتها ونحاورها، بعد موضوعنا عن دارسة الحياة البرلمانية المصرية إيمى سوزوكى. وهذه المرة نتحدث عن متخصصة فى العمارة الإسلامية وتاريخها. وهى تقيم فى القاهرة حيث تشغل مسئولية مديرة المكتب الدائم للجمعية اليابانية لتطوير العلوم. وعلى الرغم من أعباء هذا المنصب لمؤسسة ترعى منذ 30 عاما منح الأكاديميين المصريين فرصا لاستكمال دراساتهم العليا فى اليابان إلا ان "نواكا فوكامى "لا تنسى شغفها وعشقها للعمارة الإسلامية. وعندما قابلتها أطلعتنى على مشروع تبدأه فى القاهرة الفاطمية والمملوكية للتفاعل مع وعى سكان هذه الأحياء التاريخية بتراثها من العمارة الإسلامية. كما كانت تستعد لزيارة أسوان لاستكمال دراساتها حول معمار وفن "المقرنصات" فى أضرحة ومقابر تعود إلى القرن العاشر الميلادي. وتعد "فوكامى" من جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية التي كان لها آثار مدمرة على الموروث المعماري في بلادها. وهو موروث طالما عانى من غضب الطبيعة جراء الزلازل. كما عاد ليتعرض للتدمير والفقد مع فترة الازدهار والطفرة فى الاقتصاد، مع حلول عقد السبعينيات من القرن العشرين وما جلبته من اندفاع خلف استبدال المباني القديمة بالحديثة. ولدت فوكامى عام 1949 فى منطقة ريفية تدعى " ماتسوايدا" فى وسط اليابان وعلى بعد نحو 160 كيلوا مترا من العاصمة طوكيو .وتقول عن جذورها :" عائلتى كانت من رجال الدين الرهبان البوذيين .هكذا كان جدي وأبي. ومنذ طفولتي عشت حياة تقليدية فى أبنية ذات عمارة عتيقة. وعندما أصبحت طالبة فى التعليم ما قبل الجامعي وجدت في نفسي ميلا لدراسة التاريخ .. تاريخ العالم كله. لكن درجاتي بالمدرسة في الرياضيات والعلوم الطبيعية كانت أفضل من الآداب. لذا اتجهت إلى دراسة العمارة في كلية الهندسة بجامعة طوكيو متروبوليتان، اعتبارا من عام 1976. والعمارة بالأصل مزيج من الآداب والعلوم. وهى مع تاريخها يجرى تدريسها وبحثها عندنا فى اليابان بكليات الهندسة على خلاف التقاليد الأكاديمية الأوروبية التي تذهب بتاريخ العمارة إلى كليات الآداب والفنون". وعند تخرجها لم تكن " فوكامى " قد زارت أي بلد إسلامي بعد. بل إنها ودت لو تستكمل دراساتها العليا فى تاريخ عمارة بلادها اليابان . لكن أستاذها الدكتور " أكيو إشي", وبحكم تخصصه في العمارة الإسلامية, وجهها إلى هذا المجال. وتضيف :" كان الأمر صعبا في البداية بالنسبة لي .. وبالطبع هي عمارة تختلف عن عمارة اليابان والشرق الأقصى .لكن سرعان ما وجدت في العمارة الإسلامية مدارس عديدة. وهى مصدر تنوع وثراء بلا حدود ". مقرنصات في الجدار الخارجي لمسجد أصفهان وأخرى داخلية في قبة مسجد بخارى لكن ثمة عقبة أخرى واجهت المستعربة اليابانية في بداية مشوارها في البحث العلمي: فقد شرعت في دراسة الماجستير عن عمارة إيران. ولأن الثورة اندلعت هناك عام 1979 فقد اقترح عليها أستاذها "إشي" التحول إلى العمارة الهندية. وهو ما كان. وهكذا زارت مدنا وحواضر بالهند خلال عام 1980، وأجرت أبحاثها هناك على معالم العمارة الإسلامية بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر من مساجد وأضرحة ومقابر وغيرها في مدن " حيدر أباد" و " بيجابور" وغيرها بوسط الهند. وربما دفعت النشأة العائلية التقليدية "فوكامى" إلى زواج مبكر وإنجاب ستة أطفال بعد الماجستير الذي ناقشته عام 1981 . وتضحك وهى تخبرنا أنها عندما عادت وأبدت رغبتها في مواصلة مسيرتها العلمية قال لها أستاذها: "حسنا .. هذا يكفي.. أنت أم وهذا أفضل". وتضيف: "لكنى وجدت من داخلى رغبة قوية فى استئناف رحلة أبحاثي.. وهكذا أجريت رسالة الدكتوراة عن عمارة وفن المقرنصات فى إيران ووسط آسيا .. وذهبت لدراسة آثار هذه العمارة فى تركمانستان وأوزبكستان وقرغيزيا .وكانت هذه المناطق عند بحثى فيها فى نهاية الثمانينيات مازالت جمهوريات تابعة للاتحاد السوفيتي". والمقرنصات إنجاز معماري إنشائي وزخرفي جمالي لا يوجد إلا في الحضارة الإسلامية, على عكس العقود والقباب التي كانت موجودة في العمارة الرومانية والفارسية الأقدم. وتقوم المقرنصات على تشكيلات هندسية فراغية ثلاثية الأبعاد . وتلعب دورها في الانتقال والتحول من سطح إلى آخر. ويرى مؤرخون أنها تعود الى تأثيرات صوفية. أما رسالة دكتوراه "فوكامي"، فقد توصلت إلى أن هذا الفن المعماري الزخرفي بدأ في القرن العاشر الميلادي من "أصفهان" بإيران. بل تحديدا من مسجد "جورجيل " بهذه المدينة, وكذا من ضريح "إسماعيل سامان " فى "بخارى" بأوزبكستان. وبعدها انتشر إلى مختلف أنحاء العالم الإسلامي. لكن رسالة الدكتوراة نفسها تضمنت إشارات إلى أضرحة ومقابر أسوان المصرية, حيث تقول " فوكامي" إنها اكتشفت مقرنصات بدائية تعود إلى القرن الحادي عشر. وها هي تعود خلال شهر مارس الحالي إلى جنوب مصر لمزيد من التأمل والدراسة والبحث، وبعد كل هذه السنوات. وثمة أستاذ آخر يدعى " كينيا سكجوكشى " هو الذى أشرف على رسالة دكتوراه "فوكامي". ولكنه لا يعد من المستعربين اليابانيين . فهو بالأصل متخصص فى تاريخ عمارة اليابانوالصين . وهنا تقول:" البروفيسير كينيا مهم جدا بالنسبة لي.. فقد لفت نظره عدد من المقالات العلمية كنت قد كتبتها حول المقرنصات قبل تسجيل رسالة الدكتواره.. فطلبني إلى جامعته ( يوكوهاما الوطنية ) ليشجعنى على استئناف مسيرتي العلمية ويشرف على رسالتي ويمنحني الدكتوراه. وهذا ما تحقق فى عام 1998.. بعد 17 عاما من حصولى على الماجستير. وربما وجد هو الآخر شغفا ما ولو من بعيد بالعمارة الإسلامية. فقد كانت لديه مقارناته بين العمارة في اليابان وعمارة الصين ..وأراد أن يمد خط المقارنة بين هذه العمارة وبين العمارة الإسلامية .. وهو بالأصل متخصص فى العمارة البوذية". لكن هناك أستاذا ثالثا تدين له "فوكامى" بالفضل أيضا. وهو " هيدنوبو جيناي". لكنه متخصص هذه المرة فى العمارة الإيطالية, ويعمل بجامعة " هوسى ". وهنا تقول :" لفت هذا البوفيسير نظري إلى خارج تفاصيل المقرنصات التى غرقت فى دراستها .. نبهنى إلى مكونات وقيم معمارية تحيط بالمقرنصات, وما تعكسه تلك المكونات من أبعاد مجتمعية وثقافية ."وتضيف :" ولعل مشروع تنشيط الذاكرة المجتمعية حول القاهرة التاريخية الذي سينطلق العمل به في مايو هذا العام ويستمر إلى إبريل 2018 , يدين بالفضل لهذا المنظور الذي نبهني إليه أستاذي (جيناي) بعد رحلة الدكتوراه ". وعندما سألتها عن مدى وجود أجيال من المستعربين اليابانيين فى تخصص العمارة الإسلامية أجابت "فوكامى ":" المتخصصون عندنا فى هذا الحقل هم حقا قلة.. و(أستاذي أكيرا شى) بمثابة رائد فى هذا التخصص ببلدى .. وعمره الآن تجاوز التسعين عاما ". ولما سألت عن توافر مراجع باليابانية عن تاريخ العمارة الإسلامية، قالت :" لا يوجد الكثير من هذه الكتب, على عكس وفرة المراجع والكتب عن عمارة اليابان والشرق الأقصى.. لكن بالطبع لدينا مراجع أوروبية وفيرة منشورة باللغات الأوروبية. وعندنا نظم مكتبية فى جامعاتنا تتيح الوصول إلى هذه المراجع" وللدكتورة " فوكامى " إلى الآن ثلاثة كتب منشورة باليابانية عن العمارة الإسلامية. أولها بعنوان :" كيف نرى العمارة الإسلامية " والصادر عام 2003. وثانيها بعنوان :" العمارة الإسلامية فى العالم " الصادر عام 2005. وثالثها وآخرها كتاب " تاريخ العالم من خلال العمارة الإسلامية". وصدر بدوره عام 2013. ولقد طبعت دار النشر من الكتاب الثاني 12 ألف نسخة لأنه يستهدف القارئ العادي. أما الكتابان الآخران فعدد النسخ المطبوعة لكل منهما 3 آلاف نسخة. وتفسر " فوكامى " هذا بأن هذين الكتابين يتوجهان بالأصل إلى المتخصصين . الأول للمهندسين المعماريين والأخير للمؤرخين. وعندما سألت عن خلاصة ما توصلت اليه "فوكامى " بشأن العمارة الإسلامية ومدى تميز نتائج دراساتها عن الاستشراق الغربي، أجابت: "أحاول أن تكون لي رؤيتي الخاصة المختلفة عن النظرة الأوروبية.. وهذه مجرد محاولات.. فأنا على سبيل المثال انتهيت إلى أنه توجد عمارة واحدة فى المجتمعات الإسلامية مستمدة من الدين ووحدانية الله ، لكن هناك تنوعا بين هذه المجتمعات بتأثيرات الزمان والمكان.. ويمكننى القول إن ثمة جدلية بين عوامل الثبات والتغير.. وأيضا تزاوجات بين أنماط العمارة هنا وهناك.. وكل ما أسعى إليه هو التوصل إلى إطار جامع لتاريخ تطور العمارة الإسلامية كلها ". وتحدد " فوكامى " ثلاث خصائص متفردة للعمارة الإسلامية إجمالا: أولا تطور النقوش والأشكال الهندسية كمكونات معمارية زخرفية في مقابل حظر استخدام صور الإنسان والحيوان .. وثانيا ما حملته هذه العمارة من قوة دفع لتطوير القباب والعقود, بما فى ذلك العقود المتداخلة والقبة الثنائية التكوين .. وثالثا الاعتناء بالفراغ أكثر من الكتل الصماء". ولكن كيف تختلف العمارة اليابانية عن العمارة الإسلامية؟ هنا تجيب "فوكامى" حفيدة الرهبان البوذيين والباحثة المتعمقة في تاريخ وفنون عمارتنا قائلة: "في اليابان والشرق الأقصى عموما, وكما يتجلى بخاصة في المعابد البوذية, فإن المهم هو ربط كتلة البناء بالطبيعة المحيطة بها من غابات وجبال وبحار . وهنا خلفية المبنى ومحيطه يكتسبان أهمية لا تتوافر في العمارة الإسلامية, تلك التي تتميز بدورها بالاستغراق في التفاصيل.