يري المفكر الاقتصادي البارز د. محمود عبدالفضيل أن الفساد الكبير يحدث علي المستويين السياسي والبيروقراطي إذا عادة ما يرتبط الفساد السياسي بتفصيل قوانين الانتخابات وتمويل الحملات الانتخابية وعدم سن التشريعات، التي تضمن عدم تحول الوظائف الإدارية العليا إلي أدوات للإثراء الشخصي المتصاعد كما حدث في مصر قبل 25 يناير. ويعطي د. عبد الفضيل نظرة بانورامية علي الأوضاع الاقتصادية في مصر خلال فترة مبارك من خلال كتابه الجديد "رأسمالية المحاسيب" الصادر مؤخراً عن دار العين ويستعرض في الكتاب الذي يقع في حوالي 130 صفحة من القطع المتوسط الأحوال الاقتصادية للمجتمع المصري بداية بالازدياد السكاني مروراً بأحوال الطبقات الوسطي والعليا وتوزيع الدخول وسياسات الأجور ونشوء الرأسماليات الجديدة والمراكز الاحتكارية التي نشأت في ظل النظام السابق الذي أخذت آليات الفساد فيه في نخر عظام المجتمع المصري وأضعفت من طبقته الوسطي حتي حدث ما يسميه عبد الفضيل في كتابه المفاجأة التاريخية التي شكلها الدور الدور الذي لعبه الشباب المتعلم والمرتبط بأدوات الاتصال الحديثة في تفجير ثورة 25 يناير. ود. محمود عبد الفضيل هو اقتصادي مصري بارز حصل علي الدكتوراة في الاقتصاد من السوربون ودرس في جامعة إكسفورد ثم عاد ليدرس الاقتصاد في جامعة القاهرة والجامعة الأمريكيةبالقاهرة ومن أهم كتبه النفط والمشكلات الاقتصادية المعاصرة مصر ورياح العولمة ونواقيس الإنذار المبكر. يقول د. عبد الفضيل إن الفساد الكبير بشكله هذا ينتج ما يعرف ب"رأسمالية المحاسيب" وهو مصطلح أطلقه أستاذ القانون الراحل د. إبراهيم شحاته ليشير به إلي من يتكسبون من وراء فرص تتيجها لهم قرابة أو صداقة في دوائر الحكم وبتدقيق النظر إلي الفئات الرأسمالية الجديدة نجد أنها تشترك في بعض السمات أهمها الاعتماد علي الاقتراض والميل للتوسع ووجود درجة عالية من الاحتكار في السوق المحلية بما يحقق لها أرباحاً احتكارية غير تنافسية. ويعطي مثالاً بعدد مصانع الحديد في مصر وهم 22 مصنعا يستحوذ 3 منها علي 90% من الإنتاج في مصر وهي "العز وبشاي والجارحي" بينما تتنافس باقي ال 19 مصنعاً علي 10% فقط ويحتكر 4% فقط من تجار الجلود ل 43% من حجم الإنتاج وتحتكر أربع شركات أجنبية 87% من حجم صناعة الأسمنت في مصر. ومن بين آليات الفساد في مصر بحبسب الكتاب استعمال أموال المعونات الأجنبية بشكل غير سليم عبر انخراط أعضاء من السلطة في الاستفادة منها بأشكال ملتوية يضيع فيها الحد الفاصل بين المال العام والخاص وهو ما يثير الخلل بالمنظومة الأخلاقية والضوابط التي تمنع الفساد. وتبقي النقطة المركزية فيما يورده د. عبد الفضيل في كتابه هوة تحليله لفاعلية الطبقة الوسطي المصري وحركتها المجتمعية بدءاً من منتصف السبعينيات فالطبقة الوسطي التي بحسب عبد الفضيل لعبت دوراً مهماً في الحركة السياسية والتنظيمات الحزبية المصرية وانحدر منها أهم الكتاب والفنانين باتت ترزح تحت وطأة ثلاث مشكلات متزامنة أولها الإنهاك المادي والمعنوي بسبب تدهور موقعها النسبي في مجال الكسب ولجوء أفرادها إلي أعمال إضافية وتعدد الوظائف ما أدي لإنهاكها معنوياً وقضي علي أي وقت للفراغ. والسبب الثاني هو بداية موسم الهجرة إلي الخليج وهو ما أدي لضعف الارتباط بمشاكل الوطن والثالث هو توغل العولمة بدءاً من التسعينيات وهو ما أدي إلي انخراط أعداد كبيرة من افراد الطبقة الوسطي في مسيرة العولمة وقيمها بدلاً من أن يكونوا وقوداً للحركات الوطنية وأدت هذه العوامل إلي نوع من ازدواجية في مواقف الطبقة الوسطة وتباين في المصالح ووجهات النظر وعدم التجانس بين مكوناتها وهو ما أضعف فعاليتها السياسية وقدرتها علي ممارسة العمل السياسي. وينتقل د. عبد الفضيل من الطبقة الوسطي إلي الطبقة العليا التي تضم كبار رجال العمال والمقاولون وكبار أرباب المهن الحرة ويقدر بعض الخبراء دخلها السنوي بحوالي ثلاثة ملايين جنيه مصري وتصل عدد أسرها إلي حوالي 750 ألف أسرة مصرية بما يعادل 4% من مجموع السكان ويتسم النمط الاستهلاكي لهم بالإنفاق الترفي المفرط ويتسم نمطها الاستثماري بأنه ترفيهي يغالي في الاستثمار في المصايف والمنتجعات لا سيما القصور السكنية ومنتجعات الساحل الشمالي والبحر الأحمر. ويعرض د. عبد الفضيل لظاهرة التجمعات السكنية المغلقة "الكومباوند" التي تتسم بوجود أسوار وبوابات تعزل قاطني تلك المساكن عن بقية سكان المجتمعات المحيطة بها ويقول عبد الفضيل إن تلك الظاهرة انتشرت بشكل سرطاني وهي نتاج لسعي تلك الشرائح العليا من الطبقة الوسطي والفئات الرأسمالية الجديدة للفكاك من أسر الفوضي العارمة التي تعم المناطق التقليدية وكتعبير عن التميز الاجتماعي والرغبة في العزلة الاجتماعية.