كانوا أربعة طلاب درسوا سويًا في مدرسة قنا الثانوية، التي تحولت حاليًا إلى جامعة قنا نظرًا لطرازها المعماري الفريد، أمل دنقل، وعبدالرحمن الأبنودى، و الكاتب الراحل محمد صفاء عامر، والشاعر مصطفى الضمراني، الذي يتحدث ل"بوابة الأهرام" عن ذكريات تلك الأيام، وبخاصة ذكرياته مع الراحل أمل دنقل الذي جرى الاحتفال به أمس الخميس في محافظته قنا. يقول الضمراني: كنا نسكن في شارع الجميل في قنا، ثم انتقلنا إلى شارع "الصهاريج" بحيث نكون قريبين من مسجد سيدي عبدالرحيم القناوى، وأتذكر أننا كنا ننشر أعمالنا الشعرية في مجلة تصدرها المدرسة عام 1956 وكان الشيخ محمود الأبنودى (والد عبدالرحمن) يدرس لنا اللغة العربية في المدرسة، وقد أقيم حفل ذات يوم عن عيد الأم تبارينا فيه أنا والأبنودى وأمل دنقل في إلقاء قصائد عن المناسبة، وكان أول شاعر يظهر علي المسرح حسب الترتيب هو الطالب أمل دنقل الذى ألقى قصيدة جميلة كشف فيها عن امتلاكه موهبة شعر مبكرة تبشر بمولد شاعر مبدع سيكون له شأن عظيم في عالم الشعر، وقد مزج أمل في هذه القصيدة بين الأم الصغري والدته والأم الكبري مصر، وأذكر منها : أريج من الخلد .. عذب عطر وصوت من القلب فيه الظفر وعيد له يهتف الشاطئان وإكليله من عيون الزهر... ومصر العلا .. أم كل طموح.. إلى المجد شدت رحال السفر وأمي فلسطين بنت الجراح ونبت دماء الشهيد الخضر يؤجج تحنانها في القلوب ضرامًا على ثائرها المستمر. ويضيف الضمراني: لقيت قصيدته استحسانًا كبيرًا لدي الحاضرين، وتقديرًا كبيرًا من هيئة التدريس بالمدرسة خاصة مدرسي اللغة العربية، الذين كانوا يعتبرون الطالب أمل دنقل من أفضل تلاميذ المدرسة تفوقًا في اللغة العربية والشعر، وقد بدأ نجم أمل يلمع كشاعر ليس في المدرسة وحدها، بل في جميع مدارس ومعاهد المحافظة، وجاء دوري بعد ذلك فألقيت قصيدتي عن الأم ولقيت أيضًا استحسانًا من الحاضرين وقمت بعد ذلك أنا بالقاء قصيدتي ، اما الأبنودي فقد فجر مفاجأة أذهلت الجميع حيث كان قد أعطى لناظر المدرسة نسخة من قصيدة باللغة العربية وقال له إنه سيلقيها في الحفل لكنه فاجأ الجميع بقصيدة من الشعر «الحلمنتيشى» تجمع الفصحي والعامية وهي عن والدته «فاطمة قنديل»، واستمر في إلقاء قصيدته المطولة إلى أن جاء البيت الذي وصف فيه صلابة الأم القنائية، ساعدها القوي الذي يفل الحديد وقد يهرسه، حيث قال: «أعلنت حربك (ع الطبيخ) هزمته وغدا الحديد بساعديك بطاطا مزقتِ ثوب الخبز حتى لم يعد يقوى على إصلاحه (خياطا)» ولقد كان لهذه القصيدة وقع السحر في نفوس الحاضرين بل كانت مثل عصا موسي التي ابتلعت قصائدنا جميعا، بل ابتلعت كل فقرات الحفل.. فقد صفق ضيوف الحفل كثيرًا تصفيقًا مدويًا لكن الناظر قال للأبنودى مؤنبًا: أنت موهوب فعلا، لماذا تفعل ذلك بموهبتك؟ ولم يكن يعلم أن هذا الشاعر سيكون علامة فارقة في الشعر العامي بعد ذلك. ويستطرد الضمراني: أتينا بعد ذلك إلى القاهرة فى أوائل الستينيات ليشق كل منا طريقه في اتجاه، حيث التحق محمد صفاء عامر بكلية الحقوق جامعة القاهرة والتحقت أنا بحقوق عين شمس، أما عبدالرحمن الأبنودى فقد كان يتمني أن يدخل قسم اللغة الإنجليزية بكلية آداب القاهرة، لكن والده رفض لأنها كانت تمثل في رأيه الكفار، لذلك فقد أصر علي ان يدخل قسم اللغة العربية وتوقفت مسيرته عند شهادة البكالوريا، وبعد أن عرف والده انه ترك الجامعة استغل علاقاته فعينه كاتبًا في محكمة قنا، ثم عاد الأبنودي بعد ذلك ودخل كلية الآداب جامعة القاهرة عام 1891 قسم اللغة العربية حيث حصل علي الليسانس وسنة أولي تمهيدي ماجستير أيضا، أما أمل دنقل فقد التحق بكلية الآداب ولكنه انقطع عن الدراسة منذ العام الأول لكي يعمل وفضل أن يتفرغ للشعر الذي امتلك عليه كل حواسه فعمل محضرًا فى المحكمة نفسها ثم موظفًا فى جمارك السويس والإسكندرية ثم بعد ذلك موظفًا في منظمة التضامن الأفروآسيوي وكان أبلغنا شعرًا، وأكثرنا تفانيًا فى محرابه. ويتابع: كنا نلتقي في مقهى «أيزافيتش» في ميدان التحرير (والذي تحول حاليًا إلى معرض لبيع السيارات)، وكان يرتاده في المساء نخبة من نجوم هذا العصر من الكتاب والفنانين ومنهم دنقل ويوسف إدريس ونجيب محفوظ ويحيي الطاهر عبد الله، وصلاح عيسى، وسيد حجاب وبهاء طاهر .. وآخرون غيرهم. ويضيف: أتذكر آخر قصائد أمل التي كتبها عند زيارة أديبنا الكبير يوسف إدريس -رحمه الله -له، وكتبها أمل أمامه وهو في أنفاسه الأخيرة ونشرها يوسف إدريس وعلق عليها في بابه الأسبوعي في الأهرام أوراق الغرفة8، يقول فيها أمل: في غرفة العمليات كان نقاب الأطباء أبيض، لون المعاطف أبيض، تاج الحكيمات أبيض، أردية الراهبات، الملاءات، لون الأسرة، قرص المنوم، أنبوبة المصل، كوب اللبن، كل هذا يشيع بقلب الوهن، كل هذاالبياض يذكرني بالكفن، وقد علمت أن أعمال أمل دنقل ما زالت تحقق مبيعات كثيرة حتي الآن، رغم مرور كل تلك السنوات على وفاته.. رحم الله أمل بقدر ما أسعد الملايين بإبداعه الشعري الجميل.