برغم استمرارية النظر إلى الولاياتالمتحدة على المستوى الدولى باعتبارها القوة العظمى الوحيدة فى عالم اليوم، فإن الكثير من الشواهد أخيرًا باتت تؤكد عكس الأمر، لا سيما بعد تشكل العديد من التحالفات الاقتصادية والسياسية الجديدة، التى جاءت لتعبر عن صعود نجم العديد من اللاعبين الإقليميين الفاعلين على الصعيد العالمي، إلى جانب عودة سطوع نجم قوى تقليدية أخرى باتت تترقب عودتها سريعًا إلى ممارسة دورها فى التأثير على عملية صناعة واتخاذ القرار الدولي. وهو الأمر الذى دلل عليه إعلان تكتل دول ال"بريكس" مؤخرًا عن إنشاء بنك تنمية وصندوق احتياطى نقدى جديد على غرار البنك وصندوق النقد الدوليين، وما يعنيه ذلك من بدء الخروج من تحت عباءة المؤسسات الدولية التقليدية، التى طالما خضعت لسيطرة أمريكا ودول أوروبا الصناعية، إيذانا بتشكل نظام عالمى جديد متعدد الأقطاب. وكان تكتل دول "بريك" فى بداية تشكله على هامش قمة مجموعة الثمانى بطوكيو يوليو 2008، يضم أكبر 4 اقتصاديات صاعدة فى العالم، وهى: الصين والهند والبرازيل وروسيا، فيما انضمت جنوب إفريقيا إليه فى 2010، ليتحول الاسم بعدها من بريك إلى بريكس، اختصارا للحروف الأولى من أسماء الدول الخمس الأعضاء باللغة الإنجليزية. وبرغم حداثة نشأة التكتل، حيث عقدت القمة الأولى لدول بريكس فى موسكو يونيو 2009، فإنها أثبتت خلال فترة وجيزة قدرة دولها على إحداث التغيير المطلوب فى موازين القوى الدولية، فى ظل هيمنة الولاياتالمتحدة، ودول الاتحاد الأوروبى على المؤسسات المالية العالمية الرئيسية، مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، الأمر الذى أدى إلى تحكمها لوقت طويل فى مصير النظام الاقتصادى العالمي. ومن ثم فقد جاء على رأس أهداف التكتل حسب بيان قمة موسكو الختامى : تأسيس نظام عالمى ثنائى القطبية، من خلال العمل على إحداث توازن تدريجى فى الاقتصاد العالمى ما بين الدول المتقدمة والدول الصاعدة، وصولا إلى تشكيل نظام اقتصادى دولى جديد متعدد الأقطاب. وتشير التوقعات الصادرة عن صندوق النقد والبنك الدوليين إلى أن دول بريكس باتت تمتلك أكثر من ثلث السوق العالمية، حيث تستحوذ على أكثر من 15% من إجمالى التجارة العالمية، على أن تتجاوز بريكس نسبة مساهماتها الإجمالية 50% من إجمالى النمو الاقتصادى العالمى بحلول عام 2020، الأمر الذى يؤهلها لأن تصبح بحجم مجموعة السبع - التى تضم الولاياتالمتحدة واليابان وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وكندا وإيطاليا - بحلول عام 2027. وإلى جانب الثقل الاقتصادى على المستوى الدولى الذى سعت إليه بريكس منذ نشأتها، والناتج عن التنسيق التجارى ما بين دولها، حيث تجاوز حجم التجارة المتبادلة بينها خلال السنوات الخمس الماضية حاجز ال300 مليار دولار العام الماضي، فإن دول بريكس عملت كذلك على استغلال الوضع الجيوسياسى لها، حيث يشكل سكانها نحو 40% من سكان العالم وتمثل مساحتها ما يزيد على ربع مساحة المعمورة، وذلك من أجل كسب المزيد من التأثير والفاعلية على الساحة الدولية. وهذا هو ما دللت عليه القمة الثالثة للمجموعة، التى استضافتها الصين فى أبريل 2011، حيث دعت من خلالها إلى العمل على إصلاح شامل لمنظمة الأممالمتحدة ومجلس الأمن الدولي، سعيًا إلى تمثيل عادل لكل الدول الأعضاء داخل المنظومة الأممية وأجهزتها. كذلك فقد امتنعت دول بريكس عن التصويت على قرار مجلس الأمن، الذى قضى بفرض منطقة حظر جوى على ليبيا فى مارس 2011، كما رفضت التدخل العسكرى الأمريكى - الغربى لإنهاء الأزمة السورية فى أغسطس من العام الماضي. ويعد عدم وجود رابط مشترك، سواء سياسيًا أو اقتصاديًا أو ثقافيًا أو غيره، بين دول بريكس أحد أهم نقاط قوة التكتل حتى الآن، لا سيما أن التنوع ما بينها يخدم الهدف الذى تسعى إليه، وهو كسر مبدأ الأحادية. إلا إنه رغم ذلك فإن الكثير من المراقبين يخشون من تحول عامل القوة هذا إلى ضعف عبر الوقت، وهو التحدى الحقيقى أمام المجموعة اليوم، ذلك أن قوة الصين الاقتصادية، إلى جانب ما تبدو عليه صورة روسيا كقائد للمجموعة سياسيًا، هى ما تعكس التخوفات من أن يقع التكتل فريسة للتجاذبات على المستويين الاقتصادى والسياسي، مما قد يجر دول المجموعة إلى الدخول فى دائرة صراعات جانبية بينها، أو استغلالها فى صراعات بعيدة عنها، وبخاصة بعد دعوة بوتين لدول بريكس أخيرًا للتصدى للعقوبات الأمريكية المفروضة على بلاده فى سياق الأزمة الأوكرانية. ومن ثم فقد بات السؤال المطروح الآن هو: هل تنجح دول بريكس فى تحقيق ما وضعته لنفسها من أهداف، وبالتالى وضع نقطة النهاية لعصر الأحادية القطبية الأمريكي؟ أم ستظل التجربة قاصرة على مجرد حالة تمرد طارئة؟