يطرح شريف يونس، المؤرخ والمحلل السياسي البارز، في الحوار التالي رؤيته لسيناريوهات العنف في الشارع، محللاً أطراف العملية السياسية الحالية التي يقودها الجيش وتحالف 30 يونيو المكون من عناصر غير متجانسة بحسب تحليله، مفصلاً أطراف ذلك التحالف، واضعاً سيناريوهات نجاحه وفشله في قيادة العملية الانتقالية، وما قد يجلبه من سيناريوهات بونابرتية، حال تفككه. شريف يونس، هو أستاذ التاريخ بجامعة حلوان، ومؤلف أحد أهم وأبرز الكتب عن الحقبة الناصرية، وهو "نداء الشعب"، الذي صدر أخيراً وكان أطروحته للدكتوراة. وهو ايضاً مؤلف كتاب "مسارات الثورة" و"سيد قطب والأصولية الإسلامية" ، وكتاب "سؤال الهوية"، وله كتاب عن استقلال القضاء عام 2007. وهو مترجم بارز أيضاً. ** في أي إطار تضع الجدال حول ما إذا كان 30 يونيو ثورة جديدة أم امتدادا لثورة 25 يناير؟ - أعتقد أن هذا الجدل نفسه هو الجدال حول هل هو انقلاب أم ثورة، وأنا أرى الحالتين كمحاولة لوضع تعريفات شبه قانونية لوصف الموضوع، والاستفادة مما يترتب عليه من نتائج. وعليه فإن محاولة وضع تعريفات لما حدث هو تعبير عن صراعات موجودة على الأرض بأكثر منها خلاف علمي أو فكري حول التوصيف. الجدال حول كونه انقلابا أو ثورة، يأتي في سياق الصراع بين جماعة الإخوان المسلمين والأطراف الأخرى، إذا كان انقلابا فهو غير مشروع، على أساس شرعية ثورة يناير، ويصبح الخلاف هنا حول الشرعية. أنا أرى أن 30 يونيو تضافر فيه عمل الحركة الجماهيرية التي تجمعت حول تمرد مع مساعدات وتمهيدات من مؤسسات الدولة. يتضح ذلك في المواجهات في المحافظات والإنذار الأول الذي قام به السيسي قبل المهلة، وعلي مستوى الشرطة كانت هناك التحولات التي لها علاقة برفض الضباط لحماية نظام الإخوان ومقرات الجماعة. 30 يونيو كان إذن محصلة لقوي كبيرة من بينها تمرد التي تلقت نوعاً من الحماية، والقوى المختلفة الساخطة علي الإخوان وعملية الأخونة. ما سميه بتحالف 30 يونيو كان تحالفاً بين أجهزة الدولة وقطاعات من الفلول والقطاعات الديمقراطية الرافضة لحكم الإخوان، وكما تري فهو تحالف غير متجانس وعليه فإن القوي التي تنتمي لدولة مبارك، أو دولة يوليو، من مصلحتها اعتبار أن 30 يونيو ثورة جديدة، بينما القوى الديمقراطية ترى أن هذه موجة جديدة من الثورة على الديكتاتورية. ** في ثورة 23 يوليو كان هناك ما تسميه في كتابك "نداء الشعب"، الذي وجهه الجيش للمصريين، وتكرر الأمر بعد 30 يونيو حين طالب السيسي الشعب بتفويضه، هل نحن بإزاء نوع مختلف من "نداء الشعب"؟ - هذه إشكالية قوية لأن الاختلاف جوهري لكن التشابهات مهمة. نداء الشعب في ثورة 23 يوليو، كان نداء للشعب الصامت، المطالبة التي كانت تقدم للسكان حينها هي التزام السكينة والهدوء. باختصار "اقعدوا في حالكم ومحدش له دعوة"، النداء في هذه الحالة كان بديلاً لوجود الشعب. الوضع القائم الآن مختلف وقائم بالأساس على التعاون بين الشعب والسيسي، ودور الناس أساسي، وما أراه اليوم هي ملامح ما بعد الناصرية وليس استعادة بسيطة لها. اليوم لا توجد فكرة تغييب الشعب بالكامل والحديث بالنيابة عنه، الناس تتحدث عن نفسها، ولذلك فالاختلاف جوهري لكن التشابهات مهمة. التشابه في الحالتين هو أنه وفي كل الأحوال، المجال السياسي في مصر يقاد دوماً من خارجه، هناك هذا الطرف المهم، جهاز الدولة الأمني والعسكري الذي يلعب دوراً مستقلاً وأحياناً يأخذ دور القيادة في الحركة كلها. ** لماذا بدت أجهزة الدولة غير قادرة علي التكيف مع نظام الإخوان، وتقريباً لفظته رغم محاولات الأخونة الدؤوبة، وكيف ترى الإشارة إلي جهاز الدولة "البيروقراطي والأمني"، علي أنها دولة مبارك؟ - هي ليست دولة مبارك، هي دولة يوليو في طور انحطاكها المباركي، هذه أجهزة تأسست مع دولة يوليو ومرت بمراحل انحطاط منذ الأزمة الاقتصادية في 1964 ونكسة 1967، وأتخمت تلك الأجهزة بعناصر هجينة لا تنتمي لمنطق إدارتها، خاصة مع وضع النظام الاقتصادي تحت هيمنة عصابات مرضي عنها من رجال أعمال يسهل التحكم فيهم والتخلص منهم عند الحاجة. عملية أخونة هذا الجهاز والسيطرة عليه، كانت فاشلة بالضرورة والصدام معه كان متوقعاً لأن تركيبة الإخوان أنهم طائفة مغلقة علي نفسها، فهذه جماعة لها "كود" أخلاقي وسلوكي خاص بهم يجعلهم لا يثقون إلا في بعضهم البعض ومثيرون للريبة من الأطراف الأخرى. أجهزة الدولة نظرت إلي هذا التنظيم بتوجس وريبة، شديدة فهذه مجموعة تتصرف وفقاً لمصالحها وبالتالي إمكانية تحالفها مع أي طرف مستحيلة، ولذلك شرعت في بناء جهاز مواز لجهاز الدولة، فكان لهم أجهزة مخابراتهم وتمويلهم وحتي حصولهم علي السلاح، فأصبحوا دولة داخل دولة لكن دون سيادة أو أرض. الجهاز الموازي الذي خلقه الإخوان كان صعبا أن يندمج مع غيره، ولذلك لم يتمكنوا أن يكونوا جزءاً من جهاز الدولة أو أن يقودوه. طوال الوقت كان الإخوان غير قادرين علي التأقلم مع المجتمع، كانوا جسماً غريباً يثير عداءات كبيرة لأن له نظامه الخاص. الأجهزة الأمنية لنظام يوليو تختلف بالكامل في عقيدتها عن العقيدة الإخوانية، الأجهزة الأمنية تعتنق نظرية السلطوية المحلية، وحتي الحديث عن القومية العربية سقط، لذلك فالمشروع الإسلامي الذي يقضي بالتحالف مع حماس كان كارثياً على المستويين الأيديولوجي والواقعي. ** هل ترى أن الضربة التي تلقاها الإخوان في 30 يونيو أنهت مستقبل الإسلام السياسي أم أنه من المبكر الحديث عن ذلك؟ - ليس مبكراً، لكن الأزمة الحالية ستجبر التيار الإسلامي كله علي مراجعة أفكاره. ما حدث هو نقلة جبارة، في تاريخ الجماعة، فلأول مرة تواجه بعداء شعبي واسع، أو بمعني أدق السنة التي قضوها في الحكم سمحت بانفجار بذور العداء التي كانت موجودة من قبل. على مدار أربعين عاماً اضطهدت الجماعة وتيار الإسلام السياسي الناس عبر فرض سلطويتهم عليهم بطرق خشنة وناعمة فيما يمكن وصفه بأنه قمع فكري وسلوكي منهجي مفروض علي الشعب، ومن خرج في 30 يونيو لم يخرج بسبب أزمة بنزين أو مشاكل اقتصادية فحسب. وصولهم للسلطة أزاح الحواجز التي كان يمكن أن تحميهم من الغضب الشعبي. الإخوان الآن يواجهون أزمة عداء شعبي رهيبة، فالمسيرات التي تخرج لا ينضم إليها أحد وغالباً ما تواجه بشكل عدائي من الناس، وهذه أزمة قاتلة ووجهت ضربة ضخمة وأثارت شكوكا كبيرة حول إمكانية تطبيق مشروع الإسلام السياسي من الأصل. ولكن دعني أؤكد هنا أن تيار الإسلام السياسي ليس الإخوان فقط، هناك الجمعيات الشرعية والسلفيين وجمعية الشباب المسلمين وغيرهم ممن يشكلون تياراً واسعاً يعرف بالإسلام المجتمعي، وهذا التيار لن يختفي وسيحاول التأقلم علي الوضع الجديدرغم أنه تلقي ضربة قوية مع سقوط الإخوان وهذا يجعلهم غاضبين علي الجماعة لأنهم يشعرون بأنهم يدفعون ثمن ذنب لم يرتكبوه. سيستمرون في الوجود والعمل. كل هذه عوامل ستطرح علي التيار الإسلامي وبشدة إعادة توجيه نفسه، ولكن هذا سيكون صعباً علي الإخوان في الوقت الحالي، لأنهم تربوا داخل التنظيم علي أفكار يصعب تغييرها الآن، وفكرة انتزاع العقلية التي تقوده ستكون صعبة الآن. ** إلى أي مدى تعتقد بأنه يمكن الإشارة لما يحدث في مصر الآن على أنه حرب أهلية؟ - أنا أستعمل الكلمة بشكل مجازي، فبالطبع لا توجد جيوش متحاربة أو خنادق ولكن المؤكد أن هناك ملامح كثيرة من قاموس الحرب الأهلية موجودة الآن في الشارع المصري، هناك اصطفاف واضح في معسكرين متبلورين إلى هذا الحد أو ذاك ولا يوجد تقريباً أي أحد في المنتصف ومن يوجد في المنتصف يتم استهلاكه من جانب الأطراف الرئيسية في الصراع. حتى الآن تحالف 30 يونيو لم يتفكك. لكن "الحرب الأهلية" هذه لم تبدأ بعد 30 يونيو، الحرب بدأت مع الإعلان الدستوري الذي منح به مرسي سلطات كاسحه لنفسه، وأحداث الاتحادية وحالة الاستقطاب العنيف التي تشهدها البلاد منذ حكم مرسي. الحرب الأهلية أو بمعنى أدق حالة الاستقطاب سوف تستمر، وهي مستمرة منذ حكم مرسي ولكن ما حدث بعد 30 يونيو هو انقلاب ميزان القوى. ** إلى متى يستمر الرهان على العنف في الشارع، وهل هناك طريق لإنهائه؟ - لا توجد طريقة ممكنه لإنهاء العنف الآن، الناس كانوا يتوقعون أن تدخل الجماعة في مفاوضات ولكن هذا الخيار علي ما يبدو لا يمكن قبوله لدي الجماعة الآن، لأن الفشل الذريع جعل بنية التنظم نفسها علي المحك، ولا يمكن للتنظيم مراجعة عقيدته الآن وهو في وسط المعركة. لا توجد رفاهية لدي التنظيم لنبذ وتجنب العنف. التنظيم اختار أن يجرب، بإمكانيات أقل كثيرا، نسخة من المسار السوري، نسخة فاشلة، فموازين القوي مختلفة تماماً عن الحال مع الأسد، الذي لا يزال يمتلك قلب قوة الجيش والبوليس رغم الانشقاقات. ** هل ترى أن السيسي سيتحول إلى ناصر جديد؟ - السيسي هو الرجل القوي في العملية السياسية لأنه "رمانة الميزان"، في تحالف 30 يونيو، هو رمانة الميزان بين القوى الديمقراطية والدولة الأمنية. وهو قائد الجيش أكبر قوة منظمة في العملية برمتها، وهو لا مصلحة لديه أو دور بخلاف ذلك، لأن ما حدث في 3 يوليو ليس انقلاباً عسكرياً تم بليل. لا أعتقد أن السيسي سيكون تكراراً لنموذج عبد الناصر إلا في حالة حدوث انهيارات كبري في النظام المدني الجديد، كم لو بدأت أطراف تحالف 30 يونيو تتصارع مع بعضها بعنف، في هذه الحالة سيتصدر السيسي المشهد مستخدماً إراداته المستقلة لإنقاذ الموقف، ولكني أعتقد أن هناك أطرافا كثيرة حريصة علي ألا يتفكك تحالف 30 يونيو. ** في ضوء العنف الجاري، هل تتوقع تكراراً للسيناريو الجزائري بمصر؟ لا أعتقد أن السيناريو الجزائري سيتكرر وإن كان العنف في مصر سيتسمر لفترة طويلة، السيناريو الجزائري مختلف لأن الجيش هناك ألغى الانتخابات بعد الجولة الأولي التي فاز الإسلاميون بها، وكان التيار الإسلامي في صعود. الوضع هنا مختلف من حيث إن التيار الإسلامي في مصر في حالة هبوط حاد في شعبيته منذ صعوده إلى السلطة وتلقي ضربات قوية. ** هل تتوقع عملية سياسة طويلة متوترة؟ نحن أمام عملية سياسية طويلة ستستغرق سنوات من التوتر، ولكنها لن تكون سنوات من الشلل، هي توابع الثورة ببساطة والمستمرة منذ 28 يناير 2011. أنا أتصور أن الموضوع سينتهي بتسوية بين الثورة والثورة المضادة، حيث إنه أصبح جلياً أن الثورة لم تستطع أن تنتصر وحدها. كان يفترض أن الإخوان سيكونون وسيط هذه التسوية أو الصفقة لكنهم لم يحوزوا ثقة جميع الأطراف والوسيط الآن في هذه العملية هو السيسي.