تعرضت الفنون المعاصرة، لجملة من التحولات التي صاحبت التغيرات الثقافية لحقبة ما بعد الحداثة، والنظريات الفلسفية الحديثة، سواءً تلك المعنية بعلم الجمال أو اللغة، وشملت تلك التحولات، تعدد الوسائط، وتعدد الروايات وكسر الأطر التقليدية للعرض وطبيعة العمل الفني وديمومته ودخول التكنولوجيا كعامل أساسي في الكثير من الأعمال وفي التقرير التالي نرصد عدداً من تلك التحولات عبر أمثلة من الفنون المعاصرة. أول وأبرز تلك التحولات كان تعدد الوسائط المستخدمة في الفنون وتماهي الحدود بين ألوان الفن، بحيث لم تعد الحدود الفنية الفاصلة بين الرسم والنحت وفنون الفيديو قائمة، فأصبح العمل الواحد يضم في كثير من الأحيان لوحات وصور فوتوغرافية ومنحوتات وفيديو، وأصبح يطلق علي الأعمال المركبة اسم installation أو تجهيز في الفراغ. تبع ذلك كسر الأطر التقليدية للعرض ففرض الشكل المركب للفنون الخروج خارج الإطار التقليدي للعرض بأن تعرض اللوحة داخل إطار أو توضع المنحوتة فوق منصة، فأصبح العمل الفني نفسه هو الحد والإطار الذي يعرض داخله العمل، وبهذا الشكل كسرت أيضاً العلاقة التقليدية بين المتلقي والعمل الفني، والتي كان بموجبها يقف المتلقي أمام العمل ليشاهده من مسافة مقدسة لا يمكن تجاوزها، فأتاح الشكل المعاصر للفنون علاقة أكثر تفاعلية مع العمل الفني يمكن بها أن يدخل المتلقي داخل العمل نفسه كجزء منه. ومثال علي ذلك أعمال الفنان المصري باسم يسري الذي يقدم أعمالاً مركبة تضم منحوتات يقوم هو بصنعها ورسم بالحبر الشيني علي حوائط المعرض الذي يعرض داخله وتتضمن معارضه أيضاً أعمال فيديو، كما فعل في معرض "إجلالاً لميدان التحرير" أو "المؤسسة الرسمية"، والذي عرض مؤخراً بمركز الجزيرة للفنون. تعودنا في الشكل الكلاسيكي للفنون أن الأعمال الفنية خالدة، ولذلك تصنع من مواد قابلة للعيش فترات طويلة، ويمكن ترميمها بعد عقود إذا أصابها التلف أو الدمار، لكن مع الفنون المعاصرة أصبحت ديمومة العمل الفني غير مهمة، وأصبح ممكناً أن تصنع الأعمال الفنية من مواد زائلة وتفسد بعد فترة قصيرة من صنعها. في عام 1997 قامت الفنانة الصربية "مارينا إبراهيموفيتش"، بعرض عمل فني اسمه "باروك البلقان"، وموضوعه الرئيسي هو المجازر التي وقعت في صربيا وقت طفولتها والتي راح ضحيتها والدها ووالدتها، وفي هذا العمل تقوم مارينا بارتداء فستان أبيض وتصعد علي كومة من العظام الممتلئة بالدماء جلبت حديثاً من أحد الجزارين وتغني فوق تلك الكومة أغنية كانت والدتها تغنيها لها في طفولتها، مجسدة مأساة المجازر الصربية. بعد فترة قصيرة فسدت تلك العظام وبعثت رائحة منتنة نتيجة للدماء التي كانت فيها، وهو ما جعل الناس الذين يسكنون في جوار المكان الذي كانت تعرض فيه مارينا "باروك البلقان"، إلي إبلاغ الشرطة التي أتت وكسرت المكان لتزيل "العمل الفني"، الذي كان يجب التخلص منه قبل أن يتسبب في كارثة صحية. ويدلل هذا العرض علي أن العمل الفني لم يعد يصنع فقط من مواد قد تفسد بل مواد سوف تفسد بالتأكيد ويعلم الفنان أنها ستفسد وسيتم التخلص منها. وكسرت الفنون المعاصرة بذلك أوهام ديمومة وخلود العمل الفني. تبع ذلك أيضاً كسر فكرة أصالة العمل الفني، الذي لا يوجد منه سوي نسخة واحدة، وهي الأسطورة التي تعيش عليها مزادات الفنون في بيع اللوحات بدعوي أنها النسخة الأصلية الوحيدة، فمع الأشكال الحديثة للفنون المعاصرة، يعد الفنان معرضه في كل مرة ويقيمه مرات ومرات كلما أراد عرضه في مكان مختلف، دون أن تكون النسخة الأولي للعرض هي النسخة الأصلية أو الفريدة، وقد عززت التكنولوجيا الحديثة التي سهلت إنتاج نسخ لانهائية من الصور وملفات الفيديو هذا التوجه. تحول وسمة أخري للفنون المعاصرة، هي تعدد الروايات والأصوات داخلها، بحيث لم يعد العمل الفني يروي قصة واحدة وضعها الفنان داخله، فابتداء يلقي العمل الفني بما يقصده الفنان جانباً، ويكون علي المتلقي أن ينسج قصته هو من العمل عبر العلامات والرموز التي وضعها الفنان في عمله الفني. وعلي ذلك يصبح العمل الفني أكثر ثراءاً كلما زادت قدرته علي توليد كم أكبر من القصص والمعاني لدي المتلقين. في عمله الذي عرض بالقاهرة العام الماضي، يقوم معرض"السفن الصفراء"، للفنان السويسري أورييل أولو علي تقديم رؤية مختلفة لنكسة 1967 عبر إظهار قصة سبع سفن شحن تم احتجازها في قناة السويس بعد اتخاذ قرار بإغلاق القناة بعد اندلاع الحرب. وفي عمله الذي يهدف لبيان كيف أن التاريخ حمال أوجه يقدم أورييل القصة عبر صور فوتوغرافية وشريط فيديو وبروجيتور يعرض أبرز الأحداث التاريخية التي حدثت في فترة احتجاز تلك السفن بالقناة. تقوم بعض معارض التجهيز الصوتي علي شرائط صوتية طويلة المدة لا يمكن لأي متلقي أن يستمع إليها بشكل كامل، بعض المعارض تصل مدة شريط الصوت فيها إلي عشرات الساعات وبذلك فإنه علاوة علي أن المتلقي لن يستطيع الإلمام بالمعرض كله، فإن كل متلقي ستكون له رؤيته وروايته الخاصة عن المعرض بناءاً عن الجزء الذي استطاع الإستماع إليه ومشاهدته من المعرض. منحت الأشكال الحديث للفنون المعاصرة بتحولاتها، ثراءاً وقوة أكبر لتعزيز قيم الاختلاف والتنافر والفوضي، والتعبير عن تعقد العالم، عبر تجدد أشكالها سواء علي مستوي تركيبتها الداخلية أو بالعلاقة مع الجمهور.