يختلف مؤرخو الفنون المعاصرة، في تحديد بداياته فمنهم من يرجعها لأوائل الستينيات من القرن الماضي، ومن من يحددها بالعام 1972 والذي يراه البعض مؤشراً علي تغير شامل في الثقافة الغربية آخذين في الاعتبار المتغيرات السياسية والاقتصادية أيضاً. لكن لا شك أن أول إرهاصات الفنون المعاصرة والحدث الذي أطلق تيارها قد أخذ موقعه في التاريخ قبل ذلك بكثير في العام 1917 والذي شهد الحدث الفني الأبرز في التاريخ الحديث حين وضع الفنان الفرنسي مارسيل دوشامب (1887 – 1968) "مبولته" الشهيرة للعرض. في عام 1917 أرسل مارسيل دوشامب، عمله الفني إلي جمعية الفنانين المستقلين، ليشارك به في معرض الجمعية الفني، وكان العمل هو عبارة عن "مبولة" جاهزة الصنع من البورسلين موقعة بالأحرف التالية “R.Mutt"، لكن لجنة العروض بالجمعية قررت رفض عرض عمل دوشامب، وهو ما جعله يستقيل من عضويتها احتجاجاً علي موقفهم وعرض العمل فيها بعد. شكل عمل دوشامب في ذلك الوقت صدمة وزلزالاً كبيراً، ليس لأن العمل هو عبارة عن "مبولة"، ولكن لأنه كان مصنوعاً بشكل جاهز وليس من عمل دوشامب، فكل ما فعله دوشامب كان تغيير وضعية المبولة لتكون بوضع قائم وكتب عليها تلك الأحرف التي يرجح أنها تشير لصانعها. طرح دوشامب بعمله السؤال عما هو فن وما ليس بفن، وساهم بذلك في إطلاق نقاشات كثيرة أدت في نهايتها إلي كسر التعريفات الضيقة للفنون والجماليات وفتحت مجالاً واسعاً شكل البدايات الأولي للفنون المعاصرة، وكان لعمل دوشامب تأثير كبير في التحولات التي تعرضت لها الفنون المعاصرة، وشكلت انقطاعاً وانقلاباً علي الجماليات التقليدية للفن. أول ما طرحه دوشامب بعمله كما تري الباحثة دينا أبو الفتوح في وقة بحثية عن "الانفصال بين الفن والجماليات في الفنون المفهومية"، هو أنه أزاح التركيز من العمل الفني نفسه كمادة إلي ما يمثله العمل من أفكار ومفاهيم وهو تيار أصبح مهيمناً إلي حد كبير بعد ذلك في الفنون المعاصرة وإن لم يكن دوشامب هو من ساهم في تعميقه. ففي عمل دوشامب ليس المقصود المبولة في حد ذاتها، ولكن المقصود هو إعادة طرح السؤال حول طبيعة العمل الفني، وربما إعادة تعريف علاقة زائر المعرض بتلك الأداة التي يستعملها بشكل غير واع غالباً، باختصار أصبح مثار الاهتمام في الفنون ليس العمل الفني نفسه والحرفية والإبداع في صنعه ولكن فيما يقدمه من أفكار وتصورات وأسئلة، ومفاهيم جديدة. ورغم رفض عدد كبير من الفنانين المعاصرين، للإنفصال في الفنون المعاصرة بين الجماليات الفنية للعمل والمفاهيم التي يطرحها، إلا أن دوشامب كان معبراً عن ذلك بوضوح ففي النموذج الذي قدمه، لم تعد وظيفة الجماليات أن تقدم لمشاهدها الإبهار والإغراء البصري الحسي، سواءاً عبر جمال الألوان في لوحة أو المهارة الفائقة قي صناعة تمثال ولكنها أصبحت تعمل كمحفز للأفكار التي تعيد تعريف علاقتنا بالعالم وبالأشياء، فيقول دوشامب عن عمله أنه ينقل مشاهد الفن من التركيز علي الحرفة والمهارة في صناعة العمل الفني إلي محاولة التفسير الفكري للعمل. كسر عمل دوشامب أيضاً مسألة فرادة العمل الفني، ففي التصور التقليدي لا يوجد من العمل الفني سوي نسخة واحدة "أصلية"، لا يمكن استبدالها، لكن دوشامب استعمل "مبولة"، لا يمكن تمييزها عن آلاف المباول الأخري التي تنتجها المصانع كل يوم. ولم يعد دوشامب مضطراً لنقل المبولة الأصلية إلي فرنسا أو أمريكا أو إنجلترا لعرض عمله، يكفيه فقط أن يطلب نسخة من أي مبولة مصنوعة جاهزة ليعرضها ولن يشعر الزائر بأي اختلاف. وفي الواقع فقد استعملت نسخ مختلفة من "المبولة" في عروض متحفية متعددة عبر العالم وقد فقدت المبولة الأصلية أيضاً، ولم يبق منها سوي صورة فوتوغرافية قديمة. كسر دوشامب أيضاً سلطة المتحف، تلك السلطة المهيمنة التي ظلت لعقود تضع القواعد لقبول الأعمال الفنية التي تعرض بها وتلك التي تنبذ خارجاً، فوراء تلك القواعد كانت هناك تصورات معينة عن الفن تحدد ما هو الفن وما ليس بفن، وباختيار دوشامب لعمل صادم وجاهز الصنع بالأساس وتمكنه من عرضه حتي ولو في أماكن بديلة فهو فضلاً عن خلقه لمساحة أخري موازية للمتحف، كسر سلطته وفتح مجالاً جديداً لما يمكن أن يكون عليها الفن، نجحت في فرض نفسها والهيمنة فيما بعد. أشر عمل دوشامب بوضوح علي بدء نوع جديد من الفنون، هو الفن المفاهيمي، وإن كان أغلب الفنانين المعاصرين يرفضون الاعتراف بهيمنة الأفكار والمفاهيم علي الأعمال التي يقدمونها، وتحطمت محرمات كثيرة في الفنون وانتهت اساطير أكثر حول العمل الفني وما يجب أن يكون عليه العمل الفني، أصبح للعمل الفني أكثر من نسخة وهو مؤشر آخر علي استيعاب دوشامب لفكرة الإنتاج الميكانيكي داخل الفن في وقت مبكر. أصبح العمل الفني هو ما يقدمه من أفكار وليس من إبهار بصري، وهي سمة هامة للفنون المعاصرة التي تمردت علي فكرة السحر والغواية الفنية كما يقول الفنان المصري عادل السيوي، فلم يعد الفن أسيراً للجماليات واصبح مدركاً أنه يجب أن يصبح فاعلاً في الحياة اليومية للبشر وليس فقط تعليقاً علي تلك الحياة. لذلك يعد عمل دوشامب الأعمال الأبرز في القرن العشرين إذ ساهم في إطلاق جملة من التحولات في فهمنا لطبيعة الفنون وفي صناعتها.