يشكل ارتفاع أسعار الغذاء وغلاء المعيشة الخطر الأكبر الذى تخشاه شعوب العالم كافة، والتحدى الأقوى أمام الحكومات، خاصة فى الدول النامية والفقيرة. وجاءت الأزمة الاقتصادية، التى هزت العالم أواخر عام 2008 لتوجه ضربة موجعة لاقتصاديات كثير من الدول، أدت حصيلتها إلى ارتفاع غير مسبوق فى الأسعار وأضافت أعدادا هائلة إلى صفوف العاطلين وضاعفت معدلات الفقر كنتيجة منطقية لتباطؤ النمو فى الاقتصاد العالمى وانهيار عدد كبير من الشركات. صحيح أن الأزمة لم ينج من آثارها أحد، لكن تأثيراتها ظهرت بنسب متفاوتة. فدول العالم الأول أو المتقدمة حمتها قوة اقتصادياتها ومدخراتها الضخمة، أما الدول النامية والفقيرة فقد عانت ولا تزال من تبعات هذه الأزمة. تأتى الدول العربية على رأس قائمة الدول التى تأثرت بالأزمة، وما زاد الطين بلة ما يعانيه بعضها من ارتفاع فى معدلات البطالة والفقر وانخفاض الدخل وتردى الأوضاع المعيشية. إضافة إلى محدودية الخيارات أمام الحكومات العربية، التى تعانى من ضعف قدرة الإنتاج الغذائي المحلى، ونقص الأموال لاستيراد احتياجاتها من الغذاء التى ارتفعت أسعارها عالميا بشكل جنونى، لتزيد من مرارة الواقع الاقتصادى الأليم الذى تعيشه معظم الدول العربية. لتكتمل بذلك أضلاع أزمة تخيم ظلالها على المنطقة، وتدق ناقوس الخطر بعدم استبعاد حدوث كارثة غذائية مدمرة ، بدأت مؤشراتها فى تونس والجزائر والسودان والبقية تأتى. فى محاولات لدراسة الظاهرة وفهم أبعادها اتضح لكثير من العلماء والمتخصصين ،أن الأزمة الاقتصادية العالمية التى زلزلت العالم قبل عامين، لم تكن السبب الرئيسى لهذه المشكلة، لكنها كانت سببا فى التعجيل بظهورها، وأن هناك أسبابا أخرى، دأب المتخصصون فى التحذير من خطورتها ،دون أن يصغى إليهم أحد، فى مقدمتها التغييرات المناخية والحرائق الطبيعية، والتوسع فى إنتاج الوقود الحيوى. طوال سنوات وخبراء البيئة يحذرون من الآثار الكارثية للتغييرات المناخية باعتبارها خطرا يهدد الأمن الغذائى العالمى. ولم يلتفت إلى تحذيراتهم واستغاثاتهم أحد، خاصة الدول الغنية المسئولة الأولى عن تفاقم أزمة الانبعاثات الحرارية . تتلخص ظاهرة التغير المناخي فيما يعرف بالاحتباس الحرارى، الناتج عن انبعاث الغازات الدفيئة، مثل غازات ثاني أكسيد الكربون والميثان، التي تنبعث من مخلفات الصناعات الثقيلة، وحرق الوقود الحفري، ما يؤدي إلى حدوث تغيرات مناخية عديدة، تتمثل في ارتفاع درجات الحرارة وما ينتج عنها من خلل فى معدلات سقوط الأمطار، واحتمالات زيادة الفيضانات والعواصف وارتفاع مناسيب مياه البحار والمحيطات، وتعرض مناطق عديدة للغرق، إضافة إلى تعرض العالم لمواسم أكثر جفافا، صيفًا وشتاء، مما يحمل فى المستقبل مجموعة كبيرة من الآثار البالغة التى تشكل تهديدا كبيرا على الزراعة، وبالتالى على المواطنين. تدلل على ذلك الأمطار الموسمية التى سقطت بكثافة على باكستان العام الماضى وما تبعها من فيضانات اجتاحت عموم البلاد، وأتت على مساحات شاسعة من المحاصيل الزراعية. أهمها سلة القمح فى إقليم "البنجاب" وما تعرضت له إندونيسيا من أعاصير تسببت كذلك في مقتل وتشريد الآلاف ودمرت مساحات شاسعة من المزروعات. وكذلك ماتشهده استراليا منذ بداية العام الجارى من فيضانات اعتبرها كثيرون هى الأسوأ فى تاريخ البلاد، بعد أن دمرت مساحات شاسعة من الأراضى الزراعية، يقدر حجمها بأكبر من مساحة فرنسا والمانيا مجتمعتين، فى تكرار للفيضانات التى ضربت البلاد يناير 2010 بعد فترة طويلة من الجفاف. إضافة إلى ماتشهده دول عدة فى أمريكا الجنوبية من فيضانات مثل فنزويلا والبرازيل التى تشهد حاليا نوبة شديدة من الأمطار الموسمية، أدت الى فيضان الأنهار الواقعة جنوب شرق البلاد وما نتج عنها من تدمير وخسائر لكثير من المحاصيل الزراعية. لم تكن موجات الجفاف غير المسبوقة، التى ضربت عددا من الدول الأوروبية العام، بعد الارتفاع القياسي في درجات الحرارة وانخفاض منسوب الأنهار بشكل واضح، إلا نتيجة منطقية لهذه التغييرات المناخية.. لأن المصائب لا تأتى فرادى كما يقولون، ضربت العالم كارثة أخرى أكثر عنفا، تمثلت في وصول درجة الحرارة فى روسيا وأوكرانيا وجورجيا وعدد من دول الاتحاد السوفيتي السابق، إلى أكثر من 37 درجة مئوية. وهي المرة الأولى التي تصل فيها درجات الحرارة في هذه المناطق إلى هذا الحد منذ أكثر من 130عاما، مصحوبة بحرائق ضخمة، تسببت في دمار أكثر من 20 مليون فدان قمح. وهو مادفع الحكومة الروسية والأوكرانية، إلى وقف تصدير أي كميات من القمح والشعير والذرة، وكنتيجة منطقية انخفض الانتاج العالمى من المحاصيل الزراعية، ترتب عليه زيادة غير مسبوقة فى الأسعار، أسهمت في ارتفاع سعر طن القمح من190 دولارا إلى 300 دولار. لم يتوقف الأمر عند غضب الطبيعة فقط ، بل بينت بعض الدراسات عن سبب آخر ساهم بشكل كبير فى تفاقم أزمة الغذاء العالمية. وأظهر مدى ما يمكن أن تفضى إليه الحماقة البشرية، فى سوء استغلال الموارد الطبيعية، التى أنعم بها الله على الإنسان . وأزالت الستار عن الوجه القبيح لأنانية الدول الغنية، التى لاتكترث إلا بنفسها. أما سكان العالم "الفقير" فلا مكان لهم فى أجندتهم وهو ما أوضحته قضية الوقود الحيوى . فقد دفعت الارتفاعات المتتالية فى أسعار البترول، عددا من دول، أميركا والبرازيل وألمانيا والسويد وكندا والصين والهند، إلى إنتاج الوقود الحيوى كبديل للوقود الطبيعى. يعتمد إنتاج الوقود الحيوي تحويل المحاصيل الزراعية ،مثل الذرة والقمح وقصب السكرو فول الصويا وزيت النخيل إلى إيثانول كحولي أو ديزل، لاستخدامهما كبديل للبترول والغاز، كما يتم الحصول على الوقود الحيوي، من القش والخشب والسماد وقش الأرز، وهو ما أدى إلى نقص المعروض العالمى من هذه المحاصيل فى الأسواق العالمية، نتج عنها زيادة غير مسبوقة فى أسعار المواد الغذائية. كما أن القادم لايبشر بخير فيما يخص مسألة التوسع فى إنتاج الوقود الحيوى، حيث تعتزم الولاياتالمتحدة تخصيص نحو 25% من إنتاجها للذرة لصناعة الإيثانول بحلول عام 2022، ويخطط الاتحاد الأوروبي للحصول على 10% من وقود السيارات من الطاقة الحيوية بحلول عام 2020. أما فى البرازيل والسويد وألمانيا ، فقد أدى تعاظم القدرة الإنتاجية للوقود الحيوي إلى تحولها لدول مصدرة، ما مثل دافعا لهم للتوسع فى إنتاج الوقود الحيوى، ضاربين عرض الحائط بتحذيرات الفاو من خطورة التمادى فى التضحية بغذاء البشر لانتاج الطاقة، نظرا لما لذلك من تهديد للأمن الغذائي العالمى. على ضوء المعطيات السابقة، تصبح غالبية الحكومات العربية مطالبة بضرورة الإسراع فى التحرك لمواجهة هذة المشكلة، وتبنى استراتيجيات فعالة وموحدة، لمواجهة الارتفاعات الجنونية فى أسعار المواد الغذائية، خاصة أن الإحصائيات الرسمية، توضح أن واقع الأمن الغذائي العربي يعاني من حالة عجز غذائي متنام، لا سيما أن إجمالى ما يتم استيراده من الخارج يبلغ 72 مليون طن من المواد الغذائية بات مهددا، بحكم التغيرات المناخية وحرائق الغابات والوقود الحيوى وخلافه.. كما أن فاتورة الفجوة الغذائية التى تعانى منها المنطقة ، ارتفعت خلال العامين الماضيين من 30 مليار دولارإلى ما يقرب من 50 مليار دولار. الأمر الذى ضع الحكومات العربية بين خيارين كليهما مر، إما أن تتحمل فاتورة غلاء الأسعار وترفع من مخصصات الدعم الحكومى فى ميزانياتها، وهو أمر لاتتحمله غالبية اقتصاديات الدول العربية، وبين أن تزيد أسعار السلع الرئيسية وهو مالا طاقة للأسر العربية على تحمله، فكان الخيار الثانى هو الأقرب إلى التنفيذ، وهو ما فجر موجات من الاحتجاجات والغضب عمت الوطن العربي -وإن اختلفت فى شكلها- من دولة لأخرى، فى تونس والجزائر وأخيرا وليس آخرا السودان. وهى احتجاجات مرشحة للزيادة إن لم تسارع الحكومات فى التحرك لوأدها، قبل أن يثور بركان الغضب ويموج الشارع العربي بانتفاضات وتنتشر ثورات الفقراء والجوعى.