"إن رجال الدين فى القرون الوسطى، ونتيجة للجهل أو التعصب، قد رسموا لدين محمد صورة قاتمة، لقد كانوا يعتبرونه عدوًا للمسيحية، لكننى اطلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبةً خارقةً، وتوصلت إلى أنه لم يكن عدوًا للمسيحية، بل يجب أن يسمى منقذ البشرية، وفى رأيى لو تولى أمر العالم اليوم، لوفق فى حل مشكلاتنا بما يضمن السلام والسعادة التى يرنو البشر إليها". هكذا كتب برنارد شو أحد أشهر أدباء العالم وصاحب كتاب " محمد " الذى أحرقته السلطة البريطانية عن الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وهكذا تأمل أدباء العالم شخصيته، ذلك لأن الفصل بين شخصيته (صلى الله عليه وسلم) زوجاً ورجلاً وشخصيته نبياً رسولاً، صعب للغاية، فقد تفّرد صلى الله عليه وسلم بذلك بين حملة الرسالات لأن الرسالة المحمدية لم تبتر صاحبها عن حياته الأولى مثلما هو الحال بالنسبة لعيسى وموسى عليهما السلام ولم تقطع ما بينه صلى الله عليه وسلم وبين الرجل أو الإنسان الذى يمشى فى الأسواق وينشغل بالأبناء ويسكن إلى زوجة ويفرح ويحزن ويضعف ويبكى ويضحك. ومن هنا كان اهتمام أدباء العالم ومفكريه بشخصية محمد الإنسان والنبى، ومن تلك المنطقة أيضاً كتبت الراحلة عائشة عبد الرحمن الأستاذة الجامعية والباحثة والمفكرة والكاتبة، المولودة فى مدينة دمياط عام 1913وصاحبة أشهر المؤلفات الفقهية والإسلامية:"التفسير البيانى للقرآن الكريم، القرآن وقضايا الإنسان، تراجم سيدات بيت النبوة عنه وعن نسائه وبناته "، وفى كتابها الرائع (نساء النبى) بدتْ "بنت الشاطئ" وكأنها ترسم للرسول (صلى الله عليه وسلم) صورة بالحجم الطبيعى دون أن تغفل فيها جانباً من جوانب حياته، معتمدة كما تقول فى مقدمة كتابها على كتب السيرة والتفسير والحديث والتراجم، فالرسالة لم تنزع من قلبه (صلى الله عليه وسلم) عواطف البشر ولم تجرده من وجدانهم ولم تعصمه مما يجوز عليهم، وإنما جعلته بشراً نبياً "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل"، ولوشاء الله لعصمه من كل هذا ، على أن محمداً لم يكن مع ذلك كأحد من البشر، وكيف وقد اصطفته السماء من بين المخلوقين جميعاً "هو الذى تلقى كتاب الله ليتلوه فى الناس مبشراً ونذيراً"، لذا فإن الله سبحانه وتعالى لم يدع لرسوله حياته الخاصة يتصرف فيها كيف يشاء وإنما كان (صلى الله عليه وسلم) يتلقى من حين إلى آخر أوامر ربه فى أدق الشئون وأكثرها خصوصية، حتى أن سلوك نسائه (صلى الله عليه وسلم) كان يخضع لرقابة السماء. ومحمد هو الشاب الهاشمى عريق الأصل طيب المنبت، أبوه " عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم" الذى وعت الجزيرة قصة افتدائه من النحر وفاءً بنذر أبيه، وهى القصة التى أحيت ذكرى الذبيح الأول "إسماعيل بن إبراهيم" جد العرب. وأمه "آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة" أفضل امرأة فى قريش نسباً وموضعاً، وقد أمضى أعوامه الأولى قى بادية بنى سعد، فتركت هذه التربية البدوية طابعها الخاص فى شخصيته واكسبته صحة الجسم والنفس ورحابة الأفق وصلابة الخلق وفصاحة اللسان، كما اكسبته حياته الكادحة اليتيمة من بعد ذلك قوة احتمال وشعوراً مبكراً بالمسئولية، فكان فى إبان شبابه الرجل الناضج الجلد الصبور الذى تلمح فى شخصيته آثار البادية وفى سلوكه تهذيب الحياة المتحضرة حول الحرم، وفى عقله تجارب الرحلة والسفر وفى خلقه شمائل هاشمى قرشى لم يفسده فراغ المال ولم يصبه الترف بآفات النعومة واللين. وربما كانت تلك الصورة هى التى حددّتها السيدة خديجة بنت خويلد قبل أن تلقاه وتراه بعينيها: "شاباً وسيماً معرب الملامح، ربعة فى الرجال ليس بالطويل البائن ولا القصير المتردد، مبسوط الجبين، مرسل الذقن، عالى العنق، عريض الصدر، غليظ الكفين والقدمين، يتوج هامته شعر كث شديد السواد، وتشع عيناه الدعجاوان الواسعتان جاذبية وسحرًا تحت أهداب طوال حوالك، وتتالق أسنانه المفلجة البيضاء إذا تكلم أو ابتسم". كان يسرع الخطو ملقياً بجسمه إلى الأمام، ويحسن الإصغاء ملتفتاً إلى محدثه بكل جسمه، لطيف المحضر، يضحك أحياناً حتى تبدو نواجذه، فإذا غضب لم يخنه حلمه، وإن نفر عرق بين حاجبيه السابغين المتصلين من أثر الغضب. وتتأمل الدكتورة عائشة عبد الحمن (بنت الشاطئ) وغيرها حياة رسولنا الكريم كما وردت فى سيرة بن هشام أو كما جاءت على ألسنة صحابته (ص ) لترسم صورته كاملة. على أن كثيرًا من المفسرين ورواة السير لم يقتربوا من الجوانب الإنسانية فى حياة النبى وكأنها ليست عواطف ومشاعر إنسانية كان الرسول أكثر الناس حساسية تجاهها لما فى طباعه من رقة ونبل وشفافية، فالهجرة النبوية التى نحتفل بها هذه الأيام لم تكن مجرد طريق طويل شاق محفوف بالمخاطر، لكنها كانت تحمل بعداً إنسانياً أكثرعمقاً ولأن رسولنا كانت معجزته القرآن ولم تكن شيئاً آخر، أى أنه كان يفرح ويحزن ويحب ويكره ويمشى فى الأسواق فقد بكى وهو يخرج من مكة التى ينتسب إلى أعرق أصولها ؟، نعم كان يدرك أن الله سبحانه وتعالى يدخر له ولأمته كل الخير، وكان يعرف أن كفار مكة قد قسّت قلوبهم ولم يعد فى الإمكان أن تلين بعد أن حاصروه وصحابته وأعلنوا عليه وعليهم حربًا "مدنية" وسجلوا مقاطعتهم له ولصحابته فى صحيفة علقوها بجوف مكة، لكن كل ذلك لا يمنع محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أن يحزن وهو يخرج من مكة مجبرًا ومُشّيعًا تاريخاً طويلاً من الأحزان والأفراح. ففى مكة التى أُخرج منه مرغماً عاش طفولته وصباه، وفيها بدأ تأملاته حول الكعبة تلك التى صنعت تاريخ مكة وتاريخ عائلته على نحو خاص، وفيها ظهر له نور الحق فأنكر الأصنام التى تكدست فى بيت الله بكماء صماء، لاتملك لنفسها نفعًا ولا ضراً، واستنكر أن يسجد قومه لحجارة يصنعونها بأيديهم. وفي مكة أيضاً وعلى مشارف الأربعين كان يأوى الشاب محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إلى غار حراء متعبدًا متاملاً مأخوذاً بحكمة الله فلا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل فى فلك يسبحون، حتى جاءت اللحظة الحاسمة التى جعلته بشراً نبياً، ولك أن تتخيل ما تحمله هذه اللحظة من معانٍ يصعب وصفها، فقد اختاره الله دوناً عن سائر البشرية ليحمل رسالته وتلك مهمة ضخمة جعلت جسده الشريف يرتعد فيطلب من السيدة خديجة الزوجة والأم والأخت أن تدثره، فيأتى الوحى للمرة الثانية: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ {1} قُمْ فَأَنذِرْ {2} وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ {3} وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ {4} وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ {5} وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ {6} وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ {7} على أن لحظات الوداع والفراق فى حياة النبى الكريم لم تنته عند مكة، فقد عاش لحظات أكثر قسوة فى عام الحزن، ذلك الذى ودع فيه أقرب الناس إلى قلبه وأخلصهم حباً: (السيدة خديجة رضى الله عنها وعمه أبوطالب). وكان وداع الابن وما أقسى وأصعب وأشد وطأة على البشر من توديع الأبناء فما بالنا بالنبى البشر الرسول الأكثر إحساسًا والأرق مشاعر، بكى الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو يودع ابنه الوجيد إبراهيم الذى رزق به من السيدة مارية المصرية بعد طول انتظار فقد تزوج صلى الله عليه وسلم عشر زوجات بعد رحيل السيدة خديجة، لكن أرحامهن جميعًا أمسكت فما تجود بولد واحد للنبى الذى تخطف الموت أبناءه من خديجة، لكن الفرحة التى جاءت على مشارف الستين لم تكتمل، ففى عامه الثانى مرض إبراهيم الطفل مرضاً شديداً وارتعد جسده الصغير من الحمى، ولم يحتمل نبى الرحمة رؤية ولده يعالج سكرات الموت فبكى، ومع حشرجة الطفل الأخيرة أنحنى الرسول الكريم على جثمان ابنه وقال "تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضى الرب وإنّا عليك لمحزنون وإنّا لله وانا إليه راجعون)، وراح يواسى السيدة مارية: (إن له مرضعة فى الجنة)، ولم تطل أيام الرسول بعد موت إبراهيم فما أهلّ ربيع الأول من السنة التالية حتى لحق بربه.