من فضائل رمضان المبارك، أنه محرك للهمم، مثير للبواعث الإنسانية الشريفة، شاحذ للعزائم نحو الطاعة بدليل ما نلاحظ من كثرة وفود المصلين إلى المساجد، والإقبال على مدارسة القرآن، وحضور مجالس العلم، والتطوع بالقربات البدنية والمالية، وسخاء النفس وسماحة القلب وبسط الوجه ونحو ذلك مما للصوم من تأثير فى إثارة المشاعر الخيرة والعواطف الصادقة والأحاسيس النبيلة، وتذكير الإنسان بواجبات مختلفة، بسبب حرمان النفس طيبات الحياة وملذات المعيشة وأهواء النفس. فهذا الحرمان المادى من الطعام والشراب والمتع المباحة يرشد إلى معان عميقة، إذ إن (المحسوس يدل على المعقول). وبالصيام يتزود الصائم المؤمن من الحصانات المانعة عن محارم الله والتزام حدود الله وأحكام شرعه زادا كافيا ينفعه فى السنة كلها، فترغب نفسه فى الطاعة، وتعرض عن المعصية، لذا قال تعالي: «وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ» البقرة 184. فغاية الصوم إذا إعداد نفوس الصائمين لتقوى الله تعالى طيلة العام والعمر كله بتكرر وجوده سنويا، وتحصين النفس بخشية الله عز وجل فى السر والعلن، وهذا يعود بأطيب الثمرات على النفس البشرية. ولتجاوز عوائق النفس لابد من القيام بواجب الصوم وبقية فرائض الإسلام بإدراك الهدف العام من الدين، وبتمثل معانى رمضان بما هى رمز لكل معانى الإسلام. بوصف رمضان بصفة (الخير) الجامعة لمقومات الإسلام: (لو يعلم العباد ما فى رمضان – أى من الخير – لتمنت أمتى أن تكون السنة كلها رمضان ).وهذا مما يشحن النفس بطاقة إيمانية قوية من مراقبة الله تعالى والإعداد لتقوى الله التى تنفع المرء طيلة حياته . إن الإله العليم الحكيم الذى جعل الصيام ركناً من أركان الإسلام ومبانيه، ودعامة عظيمة من دعائمه، شرعه لتحقيق إنسانيتنا والارتفاع بها عن سائر المخلوقات . ذلك أن الإنسان ليس هو هذه الجثة القائمة بهيكلها المنتصب فقط إلا إذا فقد الروح السماوية التى يمده الله بها. فإذا فقدها كان بمجرد هيكله مشابهاً للحيوان، بل يكون أشر وأضر منه، ولكن الله يمده بروح من عنده فيما يشرعه له من العبادات المتنوعة المزكية لنفسه والمصلحة لأحواله وشؤونه كلها. فالإنسان جسد سفلى وروح علوي، فلجسده مطالب من جنس عالمه السفلي، ولروحه مطالب علوية من جنسها. فإذا أخضع روحه لمطالب جسده وحكم غريزته الحيوانية فقد استحكمت بهيميته على عقله وروحه وانقلب من مالك مدبر إلى حيوان مسير يسيره الهوى المخالف لوحى الله، وقد يتشيطن بابتعاده عن أوامر ربه فيكون شيطاناً رجيماً من جن إبليس الذين يكسبهم كسباً رخيصاً. أما إذا عرف قيمة نفسه وأدرك سر الله فيه، وحكم جانب الروح حتى يخضع جسده لها، فتغلب روحه على نزعات جسده، ويصفو قلبه من همزات الشياطين، وينشغل بحب ربه والاتجاه إليه، فإنه يكون ذلك الإنسان الكامل العاقل المفكر المتطلع إلى ملكوت السماء، والمترفع على الدنايا، والشامخ إلى استلام زمام قيادة الله فى أرضه، وحسن التصرف فيما استخلفه فيها. ومن هنا فرض الله الصيام ليتحرر الإنسان من سلطان أهوائه وغرائزه البهيمية وينطلق من سجنها متغلباً عليهاو ظافرا بإنسانيته.