رغم أن المخ كان ولا يزال لغزًا يحير العلماء، فإن الدراسات ما زالت تتوالى لفهم هذا العضو الرئيسي في الجهاز العصبي لدى الإنسان، والذي يتحكم في جميع الأنشطة وردود الفعل والاستجابة والوظائف وكل ما يحدث في الجسم، باختصار هو مركز قيادة الجسم.. ورغم أن المخ كان وسيظل يحتفظ بالكثير من أسراره، فإن هناك سيل من روائع الإعجاز الإلهى فى خلقه قد تكشفت، والتى لا تخلو من مفارقات فى حال ربطها بتفاعلات أخرى فى حياة البشر، حيث يبدو معها المخ نموذجًا مصغرًا لإبداع الخالق فى الكون.. فالمخ يتكون من حوالي 100 مليار خلية عصبية وتريليون خلية متفرعة، وهو ما يعادل نصف عدد نجوم مجرة درب التبانة بالكامل "حوالي 200 مليار نجم"، ويحتوى المخ على أوعية دموية كثيرة يمكن تقدير طولها بنحو 750 كيلومترًا، ويقوم المخ خلال اليوم الواحد بإنتاج طاقة كهربائية قدرها 12-25 وات، وهي كافية لإنارة مصباح صغير! يحدث حوالي 100,000 تفاعل كيميائي داخل المخ البشري في الثانية الواحدة، ويقوم بمعالجة حوالي 50,000 خاطرة أو فكرة خلال اليوم الواحد، ويعتقد أن 70% منهم ذات طابع سلبي، لكن من الطريف أن المخ الذى يعالج ويرسل الإحساس بالألم لمختلف أجزاء الجسم لا يحس بالألم نفسه، كما تنتقل الإشارات العصبية داخل المخ بسرعة حوالي 420 كيلومتر/ساعة، وهو أسرع من أسرع سيارة في العالم. ويقدر العلماء أنه إذا كان المخ البشري جهاز كمبيوتر، فيمكنه معالجة 38 تريليون عملية في الثانية الواحدة، وبالتالى فهو أسرع 500 585 مرة من أسرع سوبر كمبيوتر في العالم، ففي عام 2015، احتاج رابع أقوى سوبر كمبيوتر في العالم لحوالي 40 دقيقة لمحاكاة ثانية واحدة من نشاط المخ البشري. وهناك عقول كثيرة حيرت البشرية والعلم على مدى التاريخ، لكن يتربع عقل إينشتاين على عرشها، بالنظر إلى إنجازاته الهائلة فى الفيزياء والرياضيات، حيث تجني البشرية اليوم ومنذ وقت طويل ثمار إنجازاته.. لذا بعد وفاته فى 1955، احتفظ أحد العلماء بدماغه، آملا أن يكشف السر وراء عبقريته، لكنه لم يلاحظ فرق بين متوسط حجم دماغ إينشتاين والإنسان الطبيعي، بل إن مخه أصغر بحوالي 10% عن متوسط وزن المخ للإنسان، إذ يزن حوالي 1229 جرام!!، بعد ذلك صور الدماغ وقسمه إلى 249 قطعة… لكن في عام 1988 لاحظ أحد العلماء أن دماغ أينشتاين يحتوي على خلايا عصبية أكثر من المعتاد، تعمل كموصلات كهربائية من شأنها رفع كفاءة عمل الدماغ. فى جامعة هارفارد بأمريكا، بنك فريد من نوعه فى العالم؛ إنه "بنك المخ أو الدماغ" "Harvard Brain"، لديه نحو 5000 عينة دماغ، مهمة البنك هي جمع عينات الدماغ وتخزينها وتصنيفها وإعادة توزيعها على الباحثين في جميع أنحاء العالم الذين يقومون بأبحاث حول الدماغ البشري، خاصة اضطرابات الدماغ العصبية والنفسية، مثل الفصام والاضطراب ثنائي القطب ومرض باركنسون "الشلل الرعاش" ومرض هنتنجتون "مرض وراثي نادر يتسبب في الانهيار التدريجي للخلايا العصبية في الدماغ"، وغيرها الكثير. سابينا بيريتا مديرة بنك المخ بجامعة هارفارد، تصف البنك بأنه لا ينام أبدًا، كما الدماغ، حيث يتواجد فريقان من الأطباء تحت الطلب على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، مهمتهم المسارعة إلى نقل مخ أى إنسان تبرع بمخه، تنفيذًا لوصيته أو بموافقة ذويه فورًا إلى البنك، وتكون هناك فترة زمنية محدودة جدًا من وقت وفاة الشخص إلى الوقت الذي يتعين فيه إنهاء العملية برمتها، فى خلال أقل من 24 ساعة.. وما إن يصل المخ إلى البنك، يكون فى انتظاره عالم متخصص فى تشريح الدماغ، حيث يفصل نصفى الدماغ، ويحفظ أحد نصفى الدماغ فى محلول يحفظه، ويُشرح النصف الآخر إلى أقسام سميكة، ثم تجميدها. ورغم كل ذلك، تقر مديرة بنك الدماغ "بأننا لسنا قريبين حتى من فهم الكثير مما نأخذه كأمر مسلم به، أفكارنا وغرائزنا ومشاعرنا وعواطفنا، هناك الكثير من الأسئلة التي مازلنا لانعرفها، ومن المحتمل أن تظل الكثير من وظائف الدماغ لدينا قيد الدراسة لفترة طويلة قادمة".. بالتأكيد هو تبرع، ليس تبرعًا لإنقاذ حياة آخرين، بأى عضو آخر كالكلى فص والقلب والكبد أو حتى قرنية العين بعد الوفاة، بل هو تبرع هنا فى سبيل العلم.. بالتأكيد كل عقل بشري سيتم التبرع به سيكون تشريحه محل إنجاز واعتبار، لكن من المؤكد أن هناك عقولًا إن تم فحصها بعد موتها ستضيف الكثير من المصطلحات إلى قاموس العقل والمخ، فهذا "مخ فابريكة"، وذاك مخ تآكلت خلاياه من كثرة "الغسيل" و"المخ المتيبس"، وغيرها من المصطلحات التى ستكون من باب "العلم بالشيء وبالمخ" أيضًا. وفى ظل حالة "تأرجح" دعوات التبرع بالأعضاء، حيث إن هناك مجتمعات تقبلها وأخرى تقاومها، فهل سيكون التبرع بالمخ أمرًا مقبولا فى المستقبل لأغراض البحث العلمى؟ مع ملاحظة أن أى عضو يمكن تشييده معمليًا بطرق الهندسة الوراثية فى المستقبل القريب، إلا المخ يا مولاي!