أيام معدودات تفصلنا عن غروب شمس إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ويتعجل الأمريكيون ومعهم كثيرون في أرجاء المعمورة يوم رحيله عن البيت الأبيض غير مأسوف عليه، ومعاقبته بقسوة على جرمه الفادح في حق الشعب الأمريكي بإثارته وتحريضه مناصريه على اقتحام الكونجرس بهمجية وغوغائية صدمت العالم بأسره، لإعاقة تصديقه على فوز جو بايدن بالانتخابات الرئاسية الأخيرة. اختار ترامب أسوأ خاتمة من الممكن أن يُنهي بها رئيس ولايته، عندما تجرد كلية من الإحساس بالمسئولية ومقتضياتها، وتناسى أن أولى مهامه الأساسية، هي المحافظة على الجبهة الداخلية وتماسكها، وعدم إثارة النعرات والتمييز العرقي والطائفي، واحترام القانون وتوقير مؤسسات الدولة، وحمايتها من التخريب والفوضى والعنف، وتقدير آليات الديمقراطية واستحقاقاتها، ومنها القبول الطوعي بما يقرره الناخبون عبر صناديق الانتخاب. ترامب ضرب عامدًا متعمدًا عرض الحائط بكل القواعد والبديهيات السابقة، وفضل الانسياق الأعمى خلف رغبته الجامحة والمريضة للبقاء في الحكم، حتى لو كان الثمن لنيلها إزهاق أرواح المواطنين، ودهس مؤسسات الدولة بالأحذية الغليظة لمؤيدي التيار اليميني المتطرف، الذين أطلق لهم العنان لاستخدام العنف والبلطجة لتحقيق أغراضه الشخصية البغيضة، ولم يكن لديه الشجاعة للاعتراف بأخطائه الكارثية، وأحدثها تحريضه أنصاره للتظاهر أمام الكونجرس ثم اقتحامه، ووصفهم بأنهم مميزون لديه!! وبنظرة فاحصة فإن أفعال وخطايا ترامب خلال السنوات الأربع الماضية تعود في أصلها إلى عدم أهليته سياسيًا ونفسيًا وربما عقليًا للمقعد الرئاسي، فهو لم يخرج من حاضنة سياسية تتولى تجهيزه وإعداده الإعداد اللازم والمناسب، ولم يشغل سابقًا مناصب في دولاب العمل الحكومي، أو المؤسسة التشريعية التي تمنحه خبرة كافية للتعامل مع الأزمات والقضايا الداخلية والخارجية، وأن يتعلم التريث والتحكم في أعصابه ونزواته، وفيما يقوله من تصريحات وتعليقات، واتخاذ القرارات الصائبة، وألا يصبح عبئًا وخطرًا على الأمن القومي لبلاده بتهوره ونزقه وتصرفاته غير المدروسة وغير محسوبة العواقب. وكل ما يجيده ترامب منحصر في عالم المال، واعتاد أن يكون الآمر الناهي لكونه يمتلك الثروة، ومن ثم بقي لآخر أيامه الرئاسية غير مرحب ولا قابل لمعارضته، أو السير في طريق غير الذي يرسمه، حتى لو كان سيقود للتهلكة والخراب، وهو ما جعله يعيش في فقاعة صنعها لنفسه ولم يكن يرى أي شيء خارجها، ويعتقد أن من يعارضه وينتقده عدو مباح دمه، ولابد من طرده من جنته. وتفاقم الوضع وازداد سوءًا باستحواذ الغرور والاستكبار على عقل وقلب ترامب، والاعتقاد بأنه على صواب على طول الخط، وأن الجميع يتآمرون عليه، وأن شعبيته طاغية ومكتسحة، وبالتالي لم يكن على استعداد يومًا للإقرار وبتواضع بوقوع خطأ من جهته يستدعي اعتذاره، أو ندمه، وظل يتمسك بنظرية المؤامرة التي وجدت رواجًا منقطع النظير بين مؤيديه ليومنا هذا، غروره وعدم استماعه للنصح تسببا من بين أسباب أخرى في انتشار فيروس كورونا في أمريكا لمستويات مرعبة ومخيفة. لذلك لم يفاجئني شخصيًا ولم يصدمني كثيرًا المشهد المخزي لاقتحام الكونجرس، وهو العار الذي سيلاحقه أبد الآبدين، فالمقدمات جميعها كانت تشير إلى أنه غير مأمون الجانب، ويميل لكل ما يصب في خانة التطرف، وليس أدل على ذلك من دعوته داعميه للتظاهر، وإيهامهم أنه سيكون وسطهم للحيلولة دون تمكين الكونجرس من القيام بمهمة التصديق على فوز بايدن، وعدم مسارعته لإدانة العنف والفوضى التي انخرط المتظاهرون فيها بتشجيعه وتحريضه. نعم ستتخلص الولاياتالمتحدة من كابوس ترامب، لكنها لن تتخلص من إرثه سريعًا، فهناك أكثر من 70 مليون أمريكي صوتوا له بالنسخة الأخيرة للانتخابات الرئاسية، لأنهم آمنوا وتيقنوا من أنه يعبر عن أفكارهم الراديكالية ويعكسها في كل ما يفعله لإيمانه الشديد بها، وينحاز بشكل سافر لمبدأ تفوق البيض، والتمييز العرقي دون مراعاة لما سيجلبه ذلك من ويلات ومصائب للمجتمع المنقسم بصورة كبيرة. مؤيدو ترامب لن يستسلموا بسهولة ولن يلتزموا الصمت والأدب، بعد مغادرته البيت الأبيض وسيتحولون لشوكة غليظة في ظهر الإدارة الجديدة والمجتمع ككل، وسيخوضون حرب استنزاف عنيفة ضد بايدن، الذي أعلن أنه جاء ليوحد الشعب الأمريكي لا ليفرقه، وأن تلك ستكون فلسفته في الحكم، وسيصبح ترويضهم مشقة ما بعدها مشقة، ولن تتم هذه المهمة بين ليلة وضحاها، فنهج هذه الفئات، هو الفوضى في أقبح أشكالها، مثلما تجلى في واقعة الكونجرس الأسبوع الماضي . لقد خلف ترامب إرثًا بغيضًا ضمن له وبجدارة حجز مكانة مرموقة في سجل التاريخ لمن افتقدوا الرشادة والكياسة والاتزان في حكمهم، وزجوا ببلادهم نحو التهلكة والاقتتال الأهلي، وتأجيج نزعات الانقسام والتفسخ بين أبناء المجتمع الواحد.