د. أحمد قنديل اتهم وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، في 18 ديسمبر الماضي، روسيا بأنها تقف وراء أكبر هجوم سيبراني تتعرض له الولاياتالمتحدة في تاريخها، واصفًا هذا الهجوم بأنه "خطر جسيم" على بلاده. وردًا على هذا الاتهام، نفت موسكو أن يكون لها دور في هذا الهجوم، مشيرة إلى أن اللوم الذي تواجهه في هذا الهجوم ما هو إلا "حيلة" من إدارة الرئيس دونالد ترامب ل"تخريب" العلاقات بين الكرملين والرئيس المنتخب جو بايدن، الذي سوف تبدأ ولايته في 20 يناير المقبل. ويأتي اتهام بومبيو لروسيا بعد أن كشف تقرير نشرته شركة "مايكروسوفت"، وأكثر من عشرة باحثين من الحكومة والقطاع الخاص، أن متسللين تابعين لجهاز الاستخبارات الخارجية الروسي SVR- المعروف سابقًا باسم KGB- نجحوا في عملية مخابراتية اخترقت قلب الحكومة الأمريكية ومؤسسات عديدة في الولاياتالمتحدة والعالم، وذلك من خلال زراعة برامج ضارة بتحديث برنامج نظام "أوريون" Orion لشركة برمجيات في تكساس اسمها "سولار ويندز كورب". وقد انكشفت هذه العملية، في 13 ديسمبر الماضي، عندما ذكرت وكالة "رويترز" للأنباء أن متسللين يشتبه أنهم روس استطاعوا النفاذ إلى البريد الإلكتروني الخاص بالمؤسسات الفيدرالية الأمريكية، فضلًا عن اختراق شبكات في كندا والمكسيك وبلجيكا وإسبانيا والمملكة المتحدة وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة، فيما يبدو أنها واحدة من أكبر عمليات التجسس الإلكتروني التي تم الكشف عنها في العالم. دلالات عديدة رغم أن جانبًا كبيرًا من الضرر الذي تسبب فيه هذا الهجوم ما يزال مجهولًا حتى الآن، وكذلك الدافع والهدف النهائي منه، إلا أنه يمثل إخفاقًا استخباراتيًا أمريكيًا كبيرًا، خاصة أن المسئولين الأمريكيين لم يتوصلوا بعد، على ما يبدو، إلى طبيعة المعلومات التي ربما تعرضت للسرقة أو التلاعب. ولا شك أن ذلك من شأنه أن يُقوِّض بشدة الثقة في تأكيدات الجنرال بول ناكاسوني، المسئول الأول عن الأمن السيبراني في الولاياتالمتحدة، على نجاح مؤسساته في حماية الولاياتالمتحدة من الجواسيس والهجمات الإلكترونية، خاصة أن ناكاسوني كان قد تفاخر مرارًا، منذ توليه منصبه، بأن الفرق السيبرانية الأمريكية "تفهم الخصوم أكثر مما يفهم الخصوم أنفسهم". وفي الوقت نفسه، يؤكد الهجوم السيبراني الأخير على الولاياتالمتحدة، وهي أكبر قوة سيبرانية في العالم، أن الحديث عن الهجمات الإلكترونية والحروب السيبرانية أصبح حقيقة راسخة وملموسة، في ضوء التوجهات المتزايدة من جانب كثير من دول العالم، خاصة روسيا والصين وإسرائيل وإيران وكوريا الشمالية، لتطوير طرق أذكي للتجسس وجمع المعلومات، وتخريب البنية الأساسية الحيوية لخصومها الحاليين والمحتملين، من خلال فرض هيمنتها على الفضاء السيبراني. ولعل ذلك يثبت ما قاله آدم سيجال في كتابه "النظام العالمي المقرصن" من أن "الإنترنت استهل عهدًا جديدًا من المناورة الجيوسياسية"، مشيرًا إلى أن الدول باتت تستخدم الشبكة العنكبوتية من أجل شن الحرب والتجسس على بعضها البعض؛ فإسرائيل مصممة على تعطيل برنامج إيران للأسلحة النووية، والهند تريد منع "الإرهابيين" الباكستانيين من استخدام هواتف "بلاكبري" لتنسيق الهجمات، والبرازيل لديها خطط لمد كوابل ألياف جديدة وتطوير روابط بالأقمار الاصطناعية حتى لا يكون الوصول إلى الإنترنت من خلال المرور على ميامي، والصين من جانبها لا تريد أن تكون تابعة للغرب في ما يخص احتياجاتها التكنولوجية. من ناحية أخرى، يطرح الهجوم السيبراني الأخير إشكالية "المدنيين الضحايا"؛ فمثل هذا النوع من الهجمات من الممكن أن يتم استغلاله مستقبلًا في تهديد سلامة المنظومات المعقدة والدفاع عنها مثل شبكات الكهرباء والمؤسسات المالية والأمنية، مما قد يؤدي إلى تعطيل حياة المدنيين، التي أصبحت تعتمد على الإنترنت بشكل كبير، فضلًا عن التأثير في السياسة وفي صعود أنظمة وسقوط أخري، بل وحتى التأثير في المنظومة العالمية برمتها. تهديدات متزايدة ومما يزيد من خطورة الأمر في المستقبل أن شبكة الإنترنت أصبحت توفر حاليًا الربط لحوالي 4.57 مليار مستخدم في كافة أرجاء العالم، وهو ما يؤسس فضاءً مفتوحًا يمكن التحرك فيه بكل سهولة، ودون ترك أثر واضح، مثلما يحدث في العالم المادي، لمهاجمة المنشآت الحيوية لدولة ما، واستهداف أنظمتها والتأثير في ساستها بتكلفة أقل ونتيجة أعلي وأدق من الهجمات بسلاح تقليدي أو نووي. ورغم التسليم بأن الهجمات السيبرانية ليست بالأمر الجديد، حيث تم تسجيل وقائع عديدة في مختلف أنحاء العالم منذ سنوات، لعمليات قرصنة وسرقة بيانات إلكترونية، واستخدام الإنترنت المظلم (دارك ويب) للتجسس، إلا أن الهجوم السيبراني الأخير على الولاياتالمتحدة يمثل "نقطة تحول فاصلة" في تاريخ هذه الهجمات، حسبما يؤكد كثير من الخبراء، نظرًا لكونه يؤشر لمستوي جديد من الأخطار غير المسبوقة. وقد دفع ذلك الرئيس المنتخب جو بايدن إلى تأكيد منح "الرد على هذا الهجوم السيبراني أولوية"، بمجرد توليه المنصب. وتشمل الخيارات التي تدرسها إدارة بايدن حاليًا لمعاقبة موسكو بشأن دورها المزعوم في هذا الهجوم عقوبات مالية وعمليات اختراق انتقامية للبنية التحتية الروسية. ومع ذلك، من المستبعد أن تلجأ الإدارة الأمريكية الجديدة إلى مثل هذه الخيارات، أخذا في الاعتبار أن مجتمع الاستخبارات الأمريكي نفسه يعتمد كثيرًا على الهجمات والتجسس الإلكتروني لجمع المعلومات الاستخبارية عن الخصوم الأجانب، الأمر الذي يزيد الحاجة للتعاون الدولي من أجل تقليل الهجمات السيبرانية في المستقبل، وإلا تعرضت الحياة البشرية لمزيد من التحديات والتهديدات الخطيرة. وفي هذا الإطار، تحتاج واشنطنوموسكو إلى التخلي عن جزء من تفوقهما الهجومي في الفضاء الإلكتروني، والدفع نحو تطبيق الاتفاقيات الدولية المرتبطة بمعايير وقواعد الأمن السيبراني في السلم والحرب، مثل "نداء باريس من أجل الثقة والأمن في الفضاء السيبراني". على أية حال، من الواضح أن الهجوم السيبراني الأخير على الولاياتالمتحدة سوف يفرض تداعيات إستراتيجية كبرى، لعل من أهمها ضرورة الانتباه إلى دور الأمن السيبراني في المستقبل، بما يزيد من أهمية توفير الموارد البشرية والمالية اللازمة والكافية لتعزيز الأمن السيبراني باعتباره جزءًا من الأمن القومي لأية دولة.