د. علي الدين هلال لم يكُن الرئيس الفرنسي ماكرون مُصيبًا أو دقيقًا في المؤتمر الصحفي الذي عقده مع الرئيس عبد الفتاح السيسي يوم 7 ديسمبر 2020 عندما أقام تناقُضًا بين القيم الإنسانية والقيم الدينية وأعطي الأولوية للأولي، مما استدعي تعليقًا من الرئيس السيسي علي ما قاله. وأُريد أن أطرح في هذا المقام ثلاث مُلاحظات: المُلاحظة الأولي تتعلق بمفهوم القيم الإنسانية التي يُقصد بها تلك القيم العامة التي تتعلقُ بكرامة الإنسان وتربط بين البشر وترسم صورة الحياة المُثلي التي يسعي إليها الأفراد والمُجتمعات. وفي التاريخ الأوروبي ارتبط تطور هذه القيم بمرحلتين: أولها مرحلة النهضة (الرينيسانس) التي شهدت تحولات ثقافية وفكرية عميقة وامتدت من القرن 15 إلي 17 الميلادي. بدأت تلك التحولات في إيطاليا وهدفت إلي إحياء الأفكار اليونانية القديمة المُعتمدة علي التفكير العقلي وعبر عن ذلك الفيلسوف وعالم الرياضة والفيزياء الفرنسي رينيه ديكارت بمقولته الشهيرة: إنا أشك إذن أنا موجود، وكذلك إلي إحياء الأدب والفنون وخاصة الرسم علي يد ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو، وإصلاح التعليم. ومع أن هذا التطور كان أوروبيا في المقام الأول، فإنه استفاد من التراث الإسلامي الذي حافظ علي الفكر اليوناني القديم وأضاف إليه خلال العصور الوسطي. وقام المُفكرون الأوروبيون بترجمة كتابات ابن خلدون في الاجتماع وابن رُشد في الفلسفة وابن سينا في الفلسفة والطب والفارابي في الفلسفة والموسيقي والكندي في الفلسفة وعلم الفلك وجابر بن حيان في الكيمياء. وثانيتها عصر التنوير الذي يرتبط بالتحولات الثقافية والفكرية العميقة التي شهدها القرن 18 وعبرت عنها كتابات كانط في ألمانيا وفولتير ومونتسكيو وجان جاك روسو وديدرو في فرنسا وآدم سميث وجيرمي بنثام وجون لوك (الذي تُوفي عام 1704 ولكن كتاباته أثرت علي تطور الفكر في هذا القرن) في إنجلترا. وجاءت شعارات الثورة الفرنسية وهي الحُرية والإخاء والمساواة ثمرة لهذا التطور وانتشرت أفكار الثورة الفرنسية وقيمها في أوروبا ووضعت الأساس لما سُمي بالقيم الإنسانية. والملاحظة الثانية أن تفسير القيم الإنسانية وتطبيقها ليس أمرًا مُطلقًا ومُسلمًا به وإنما يختلف في داخل المجتمعات الغربية ذاتها. فإذا أخذنا مثلا موضوع العلاقة بين الدولة والدين أو بالأحري بين الكنيسة والدولة، فإننا نجد نماذج مُختلفة بين دولة وأُخري. ففي بريطانيا، فإن الملكة هي رئيسة الكنيسة وهو منصب شرفي واسمي لكنه يرمز إلي الصلة التاريخية بين الاثنين. وفي اليونان، نصت المادة الثالثة من الدستور علي أن المسيحية هي دين الدولة، وتُمثل أحد عناصر الهُوية اليونانية. بينما التزمت فرنسا وفقًا للقانون الصادر في 1905 بالفصل الكامل بين الدولة والدين، ومنعت استخدام المال العام لمصلحة المؤسسات الدينية بأي شكلٍ. هذا في الوقت الذي تتردد فيه عبارات وإشارات دينية في الخطاب السياسي الأمريكي كما هى الحال عند الرئيس ترامب ووزير خارجيته بومبيو. وإذا أخذنا قيمة الحُرية التي يُطلقها الأوروبيون دون حدود تقريبًا، الأمر الذي أثار أزمة الصور الكاريكاتورية المُسيئة للرسول الكريم مع الدنمارك وفرنسا، فإن القائمين علي أمور التعليم والإعلام في أمريكا وكندا وأستراليا مثلًا لم يفهموا الحُرية بما يسمح لهم بتداول هذه الصور ويؤكد ذلك ما صرح به رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو في 30 أكتوبر الماضي بأن حرية التعبير ليست بلا حدود وان استخدامها يجب ألا يُسبب إساءة لجزء من أبناء المجتمع. ونفس الشيء ينطبق علي عقوبة الإعدام التي منعتها كُل دول الاتحاد الأوروبي، بحجة أنها اعتداء علي الحق في الحياة باعتباره حقًا من حقوق الإنسان التي ينبغي احترامها، فإنها تُطبق في الولاياتالمتحدة والهند واليابان وكثير من دول العالم. ويوجد هذا التنوع والاختلاف بخصوص الإجهاض وعما إذا كان يُعتبر حقًا للمرأة أم جريمة، فتختلف ممارسات الدول الغربية في هذا الشأن. والمعني الذي أكده أن القيم الإنسانية مثل احترام كرامة الانسان والحرية والإخاء تتعدد تفسيراتها وتطبيقاتها في داخل المجتمعات الغربية، ناهيك عن المجتمعات التي تنتمي إلي تقاليد ثقافية ودينية أخري. والملاحظة الثالثة أن القيم الدينية هي أيضًا قيم إنسانية. فالقيم الإنسانية التي وصلت إليها أوروبا من خلال الفكر البشري لا يُمكن فصلها أو احداث قطيعة بينها وبين ما يناظرها من قيم دينية. وليس من الصحيح إقامة تناقض او تنافر حتمي بين الاثنين.ويدل علي ذلك أن الفلاسفة الذين وضعوا أُسس القيم الإنسانية تأثروا بأفكار دينية، وكتب كُل من مونتسكيو وروسو في أهمية دور الدين في تنظيم المُجتمع. فالأديان عمومًا تتبني قيمًا سامية تقودُ المؤمنين بها إلي الصلاح المادي والرُوحي. وبصفة عامة، لا توجد اختلافات بين جوهر القيم التي بشرت بها الأديان وكُلها تحض علي التراحم والإخاء والعدالة والحُرية وإن اختلفت في طُرق التعبير عنها. والديانتان المسيحية والإسلام خاطبتا البشرية عمومًا، فظهرت حركات التبشير والدعوة حتي انتشرتا في كُل أرحاء المعمورة. لا يوجد إذن تناقض بين القيم الإنسانية كما بلورها الفلاسفة والمفكرون وبين القيم التي جاءت بها الأديان. فجوهر الاثنين واحد وهو تحقيق حُرية الإنسان وكرامته وسعادته. وعندما يظهرالتناقض بين الاثنين، فإنه يكون بسبب تفسيرات خاطئة أو تأويلات مُنحرفة أوتوجهات مُتعصبة ومُتشددة لدي بعض أنصار كُل منهما. ويوجد الاختلاف ليس علي مُستوي المضمون الفلسفي للقيم ولكن في التفسيرات وأشكال التطبيق. فسُنة الحياة هي التنوع والتعدُد والاختلاف. والدُنيا تتسعُ لكُل الناس من المتبنين للقيم الإنسانية وللقيم الدينية علي حد سواء في إطار من الاحترام والتسامُح والاعتراف المُتبادل.