د. سليمان عبدالمنعم لأن المجتمعات الحية الواثقة لا تخجل من مصارحة نفسها ومراجعة أحوالها ثمة حاجة هذه الأيام لأن نتوقف ونتساءل عما جرى لأخلاق المصريين. فالذى نشاهده ونسمعه ونقرؤه خصوصاً مع هيمنة شبكات التواصل الاجتماعى فى حياتنا أصبح أمراً كاشفاً عن تراجع أخلاقى جدير بأن ندير حوله نقاشاً عاماً نربط فيه بين الظواهر والتفسيرات والحلول. فقد تراجعت الأخلاق بشكل غير مسبوق فى لغة خطابنا وحوارنا، وفى سلوكياتنا، وحتى فى فهمنا وطريقة تفكيرنا. ثلاثة مستويات للتراجع أكتفى بوصفها تراجعاً لكنها جديرة بأن توصف أحياناً بالتدهور أو الانحطاط. تراجعت أخلاقنا وتدهورت على مستوى مفردات الخطاب والحوار مع أننا حتى عدة عقود مضت كنا أصحاب قاموس اجتماعى راق وذكى ومرح، أما اليوم ف قاموسنا الاجتماعى رديء تتناهى إلى آذاننا ألفاظ مقذعة أصبحنا نسمعها حتى فى ساحات جامعاتنا المكتظة بالطلاب. قاموسنا الاجتماعى الرديء والمخجل أصبح يطل علينا أحياناً من قلب بعض البرامج الفضائية وكأننا نتبارى فيمن هو الأشد تجريحاً. المفزع أن هذا القاموس الرديء لم يعد لغة للسوقة والعوام فقط لكنه أصبح أيضاً لغة لمتعلمين ومثقفين وشخصيات عامة ورياضية وكذلك من يُفترض أنهم قدوة للغير. أما الفضائيات التى تبث من خارج مصر فقد أصبحت اللغة المستخدمة فيها على ألسنة بنى جلدتنا من المصريين الذين يطلون علينا كل مساء نموذجاً مريعاً للتدهور الأخلاقى وبعضهم يخلط فى خصوماته السياسية بين الموضوعى والشخصى بلغة مسيئة تنضح بالعيب والشماتة وتتطرق إلى الخصوصيات بشكل لم يألفه المصريون من قبل حتى فقدنا الشعور بمعنى العيب، وهو وصف كان يخشاه المصريون فيما مضى ولم يعد أحد يأبه اليوم به. تراجعت الأخلاق أيضاً حتى على مستوى فهمنا وطريقة تفكيرنا. فعندما ترى بعض المتعصبين يمارسون التنمر العنصرى ضد أحد أجمل لاعبى كرة القدم المبدعين فهذا يعنى سقوطاً أخلاقياً. والمفارقة أن يحدث هذا التنمر العنصرى الغبى بسبب اللون من جانب أشخاص هم أنفسهم ذوو لون بشرة قمحى أو حنطي! ولعلّ الملابسات التى أحاطت بعملية التنمر العنصرى ضد لاعب الزمالك المبدع ابن مدينة أسوان السمراء الجميلة الوديعة كانت جديرة بأن يتم التحقيق فيها ومساءلة مرتكبيها لأنها تنطوى على أفعال يعاقب عليها القانون. والمفترض أن يكون للجهة المسئولة عن الرياضة فى مصر رد فعل على هذه الممارسة العنصرية كما يفعل مثلاً اتحاد الكرة الإنجليزى لكرة القدم . تراجعت الأخلاق كذلك على صعيد سلوكياتنا. هنا يفاجئنا ويصدمنا قبح سلوكى يبدأ من صور التحرش الجنسى فى الشوارع، والاستعلاء المستفز، والنعرة الكاذبة، وتصرف بعض ذوى النفوذ والمناصب والأثرياء الجدد وكأنهم فوق القانون. والأخطر أن يصل هذا القبح الأخلاقى إلى حد التعرض لرجال إنفاذ القانون وإهانتهم علناً فى الشوارع والأماكن العامة. أصبح التراجع الأخلاقى فى ديارنا يتجلّى فى صورة دخيلة ومستجدة على مجتمعنا تتمثل فيما نراه من عرى وخلاعة وتحريض علنى على الفجور من خلال بعض مواقع التواصل الاجتماعى الجديد مثل الموقع المعروف بتك توك. هنا الإشادة واجبة بتصرف النيابة العامة القوّامة على النظام والآداب ومصلحة المجتمع فى مواجهة هذه الظواهر السلوكية. ثمة أصوات وأقلام ترى هذه السلوكيات المنفلتة من منظور الحرية الشخصية. ومع احترامى البالغ للمدافعين عن الحرية الشخصية فإن الرؤية التى يتخذونها منطلقاً لتبرير هذه السلوكيات تبدو مشوّشة ومضطربة قانونياً لأن قوانين البلدان الغربية ما زالت تجرّم حتى اللحظة أفعال التحريض العلنى على الفجور، وخدش حياء العامة، والقوادة. ولعلّ ما ارتكبته بعض المحسوبات على الوسط الفنى دون ذكر لأسمائهن يندرج ضمن الأوصاف القانونية السابقة. وما كان يمكن إدانة بعضهن بأحكام جنائية إلا لكون أفعالهن تشكّل بالفعل جرائم منصوصا عليها فى القانون. وإذا كان من يزجون بفكرة الحرية الشخصية قد تأثروا بمناخ الحرية فى بعض المجتمعات فهذا لا يعنى أن هذه الأفعال لم تعد مجرّمة قانونا هناك، بلي.. هى مازالت مجرّمة، كل ما هنالك أن الثقافة العامة فى هذه المجتمعات تتسامح مع هذه الصور السلوكية وتغض الطرف عنها. أما الثقافة العامة فى بلادنا فلم تصل بعد لهذه المرحلة، لهذا يجب على بعض الأصوات والأقلام ألا تنصب من نفسها وصيّة على ثقافة المجتمع وآدابه وقيمه. وبالمناسبة فإن أفكار الثقافة والقيم والآداب ليست اختراعاً أو بدعة فى أذهاننا بل هى مفهوم اجتماعى ونسق قانونى موجود فى كل المجتمعات مهما اتسم بالنسبية. وإذا كنت أرفض أن يكون بعض دعاة الحرية أوصياء على ثقافة المجتمع فإنى لا أمنح نفسى بالمقابل حق مصادرة الحرية الشخصية، كل ما هنالك أننى أدعو إلى نقاش جاد حول مفهومى الحرية والقيم العامة للمجتمع وكيفية تحقيق التوازن المنشود بينهما. تبلغ الأزمة الأخلاقية ذروتها وتتجاوز حدود الخيال حين نطالع كل يوم تقريباً قصص العنف الأسرى التى أصبحت تتمثل فى قتل الأزواج والآباء والأمهات والأطفال. لم تعد المسألة هنا حادثاً يقع كل عدة سنوات بل لا يكاد يمر أسبوع وإلا نطالع حالات القتل الأسرى فيما يشبه وحشاً ضارياً يغزو ديارنا يستعصى على التفسير، لم نعد نعرف ما إذا كان يمكن تفسيره بانتشار الإدمان فقط أم أن هناك تفسيرات أخرى تتجاوز الإدمان. العنف موجود فى العالم كله، والقتل الأسرى أيضاً، لكن المقلق لدينا أن حوادث القتل الأسرى تكاد تلامس حدود الظاهرة. ولأن النتائج محكومة دائماً بأسبابها فالسؤال الطبيعى يكمن بالأساس فى أسباب هذا التدهور الأخلاقى وكيف السبيل إلى مواجهته؟ عن شق الأسباب ثمة قائمة طويلة كل منها يصلح سبباً وتفسيراً. باعتقادى الشخصى فإن غياب دور المدرسة هو أول وأهم مستويات التفسير لأن معظم ما تعلمناه من أخلاقيات وتأثرنا به من نماذج القدوة الشخصية كان فى المدرسة والجامعة أو فيما دلتنا عليه وألهمتنا به المدرسة والجامعة. والحاصل أن المدرسة اليوم غاب دورها بفعل التعليم الموازى فى الدروس الخصوصية، أما الجامعة فتضاءل دورها القيمى والتربوى بفعل اقتصار دور الأستاذ على محاضرته وافتقاد التواصل والحوار والأنشطة بين الأساتذة والطلاب بفعل تضخم أعداد الطلاب وقلة أعداد هيئة التدريس وانصراف معظمهم إلى عمل آخر مواز لمواجهة المتطلبات المعيشية. لا أقلل بالطبع من تأثير غياب دور الأسرة لأسباب عديدة، ولا من الدور السلبى للإعلام المرئى وموجة الأعمال الفنية الهابطة التى جعلت من أحد المشاهير الذين احترفوا أداء أدوار النماذج الرديئة فى المجتمع بحجة الواقعية والمعروف برقم واحد والمحتفى به بأكثر مما يستحق نموذجاً وقدوة يتعلق به ويقلده النشء والشباب. لكن يبقى ضرورياً بحث ظاهرة التدهور الأخلاقى بإدارة نقاش مجتمعى حول الأدوار الغائبة للمدرسة، والجامعة، والأسرة، والإعلام، والفن، والخطاب الدينى التقليدى المغرق فى جانب العبادات العازف عن الانشغال بالظواهر الاجتماعية اليومية السلبية، فما زلنا بانتظار خطبة الجمعة التى لم نستمع إليها بعد. * نقلًا عن صحيفة الأهرام