د. هالة مصطفى رغم كل الدراما التى صاحبتها وعوامل الإثارة والتشكيك، سجلت الانتخابات الأمريكية أعلى نسبة مشاركة، ربما لم تُسجل منذ قرن من الزمان، ولا شك أن حالتى الانقسام والاستقطاب الحاد اللتين سادتا الحياة السياسية خلال الآونة الماضية، كانتا من أسباب تلك الكثافة فى المشاركة، ولكنهما لا ينفيان الوجه الآخر والأهم من الصورة، وهو ثقة المواطن فى نظام بلاده السياسى، وكأنه رد عملى غير مباشر على الآراء التى ذهبت بعيدا وأعلنت بشكل متسرع هزيمة الديمقراطية فى واحدة من أهم معاقلها رسوخا، أى الولاياتالمتحدة، المفترض فيها أنها تقود العالم الحر ، لذا اتخذت القضية أبعادا تتجاوز حدود الانتخابات الأخيرة، لتطرح العديد من التساؤلات حول جدوى الأنظمة الديمقراطية وفاعليتها ومدى قدرتها على الصمود أمام التحديات الطارئة أو حتى المزمنة، وهل هناك بالفعل ديمقراطيات مثالية أم أنه حتى فى أكثرها تقدما قد تحدث ثغرات وعثرات تجعل ممارستها تتشابه فى لحظات الحسم مع الأنظمة المستبدة البعيدة تماما عن كل ما يتعلق بالشفافية والنزاهة والفصل بين السلطات واحترام الحقوق والحريات العامة؟ لا جدال أنه كانت هناك أسباب أدت إلى إثارة مثل هذه القضايا الشائكة، فالتجاوزات التى وقعت أوعلى الأقل تم تداولها، هى تجاوزات أمريكية فى النهاية، يجب ألا تؤخذ على عواهنها كأمر طبيعى مُسلم به، وكثير من الاتهامات التى ألقيت فى أثناء العملية الانتخابية هى من قبيل مثيلاتها التى تتردد دوما فى أى انتخابات رديئة تشهدها بلدان العالم الثالث، وهو ما أعطى الموضوع زخما مضاعفا، فبصورة غير مسبوقة سارع الرئيس الجمهورى المنتهية ولايته دونالد ترامب، باتهام منافسه الديمقراطى جو بايدن، بسرقة الانتخابات والقيام بأعمال تزوير للبطاقات الانتخابية التى تأتى عبر البريد، ولم يقتصر الأمر على ذلك وإنما اتهم كثيرا من الولايات بالغش فى فرز الأصوات، معلنا رفضه القبول بالنتيجة، كما طالب أكثر من مرة، عبر تغريداته المعهودة، بالكف عن استكمال العد، أو وضع سقف زمنى للانتهاء القسرى من تلقى بطاقات الاقتراع البريدية حتى لا يتم احتسابها. بل بادرت حملته برفع أكثر من دعوى قضائية على مستوى محاكم الولايات فى محاولة لوقف أو الطعن فى الانتخابات برمتها، منذرا فى الوقت نفسه بتصعيد الأمر إلى المحكمة الفيدرالية العليا، ليحول بذلك المعركة من سياسية إلى قانونية، وينقلها إلى ساحات القضاء، والخطير هنا لا يختص بالاحتكام للسلطة القضائية، فهذا عادة ما يحدث، مثلما كان الحال فى انتخابات 2000 عندما طالب جورج بوش الابن (وهو بالمصادفة جمهورى أيضا) بإعادة فرز أصوات ولاية فلوريدا لينتزع الفوز من آل جور المرشح (الديمقراطى) المنافس آنذاك، لكن الجديد هذه المرة هو شمول الاتهامات وتوزيعها يمينا ويسارا على معظم الولايات، ثم الحديث علنا عن القصد فى التزوير وليس مجرد الخطأ (غير العمدى بالضرورة) فى عد أصوات الناخبين. بالإضافة إلى هذا المشهد الذى بدا عبثيا إلى حد كبير، كانت هناك مظاهر أخرى أعطت انطباعات أشد سلبية على ما يمكن أن تصل إليه الأمور، إذ تم تفسير اصرار ترامب على تعيين القاضية إيمى كونى باريت على رأس المحكمة العليا خلفا للراحلة ذات الانتماء الليبرالى روث جينسبرج، كمحاولة لتأمين أعلى سلطة قضائية لمصلحته، وأنه تحسب لهذا اليوم بعدما شكك مسبقا فى انتخابات الرئاسة وطرق التصويت وحكام الولايات من غير الجمهوريين وصرح بأنه لن يترك منصبه ولن يغادر البيت الأبيض مادام لا يثق بنزاهة الانتخابات، وبالفعل وُضعت حوله المتاريس وأحيطت به السياج الشائكة تخوفا من احتمالات تحقق سيناريو كهذا، تندلع على اثره اشتباكات وأعمال عنف، وبديهى إن أى استغلال أو افتئات لسلطة من السلطات الثلاث على الأخرى يكون، إذا صح، بمثابة نسف للأسس الديمقراطية ذاتها. لم تقف الانتقادات عند تلك الحدود، بل امتدت للنظام الانتخابى نفسه المعمول به منذ عهد الآباء المؤسسين للدستور، حيث لا يُنتخب الرئيس مباشرة بالتصويت الشعبى وإنما تصب الأصوات فى المجمع الانتخابى وتُحسب بالأوزان النسبية لكل ولاية، التى يكون لكل منها عدد محدد فيه وفقا لحجم سكانها، ومن ثم دائما ما تظهر الفجوة بين نوعى التصويت، ومن هنا كانت مظاهر الخلل التى يشير إليها منتقدو هذا النظام. وبغض النظر عن كل تلك التفاصيل التى جعلت الانتخابات الأمريكية هذه المرة مثارا للتندر والسخرية، هناك ملاحظات أساسية لاستكمال الصورة من كل جوانبها والتفرقة بين ما هو جوهرى أو استثنائى فيها، وفى مقدمتها: أولا، إن مسألة الانقسام الخطير أو الكبير، الذى جعل من أمة فى خطر عنوانا لبعض الصحف العالمية وآخرها الجارديان البريطانية، تحمل قدرا من المبالغة، فالمجتمع الأمريكى بطبيعته وبحكم تنوعه الهائل يعانى دوما الانقسامات، وإلا لما استقرت تجربته على الحزبين الكبيرين اللذين يحتكران الحياة السياسية منذ نشأة النظام الحزبى، ومعروف أن الثنائية توجد الاستقطاب بالضرورة، لكن يتم استيعابه بصورة دورية سلمية، وهذه النقطة تحديدا تعود إلى فاعلية النظام الديمقراطى، وبالتالى لا مجال لتوقع حرب أهلية مثلما قال الصحفى الشهير توماس فريدمان، ويكفى للتدليل على ذلك حصول ترامب على أصوات بعض الأقليات من أصول إسبانية وإفريقية وكذلك من بعض شرائح الطبقة العاملة والمزارعين كانت تذهب تلقائيا للتيار الليبرالى، أى الحزب المنافس، والعكس صحيح أيضا، فالنظام فى النهاية هو نظام مفتوح وليس مغلقا وهى خاصية كفيلة بامتصاص كثير من مشاعر الغضب المفضية للعنف. ثانيا، هناك توازن حقيقى بين السلطات، ودرجة عالية من الاستقلالية لكل منها، وكثيرا ما يأتى الكونجرس ممثلا للسلطة التشريعية على سبيل المثال، بأغلبية معارضة للرئيس وهو قمة السلطة التنفيذية، ومع ذلك تكفل آليات النظام عملهما معا دون طغيان واحدة على الأخرى، والشىء نفسه يمكن أن ينطبق على العلاقة بحكام الولايات فى ظل اللامركزية الشديدة المأخوذ بها، وهو ما ظهر جليا فى تلك الانتخابات، عندما رفضت معظم الولايات الاستجابة لطلب الرئيس وقف أو إعادة فرز الأصوات إلا بما يتفق فقط مع قوانينها. ثالثا، قوة المؤسسات، وهى التى تعطى الاستمرارية والطابع المؤسسى على عملية صنع واتخاذ القرار داخليا وخارجيا ضمن عملية معقدة لا تخضع من حيث المبدأ للأهواء الشخصية، ومع ذلك فقد يحدث أحيانا أن يتجاوزها الرئيس، وهذه كانت الحالة النموذجية لترامب، ولكنها تظل لحظة عابرة مرتبطة فى الأساس بشخصيته، ثم تعود الأمور لطبيعتها ويتم تسليم السلطة فى موعدها، لتنتصر الديمقراطية رغم كل شىء. * نقلًا عن صحيفة الأهرام