د. هالة مصطفى فى واحدة من أكثر الحملات الانتخابية إثارة للجدل، بدأ العد التنازلى فى السباق إلى البيت الأبيض، وسط مناخ مشحون بالعداوة المتبادلة و استقطاب سياسى ومجتمعى حاد غير مسبوق يُغلف حملة كل من المرشحين الغريمين، الرئيس دونالد ترامب عن الحزب الجمهورى وجو بايدن عن مثيله الديمقراطي، والمفارقة أنها المرة الأولى أيضا التى يخرج فيها أحد المرشحين من السباق بشكل مؤقت وهو ترامب بسبب إصابته بكورونا، قبل عودته إليه مرة أخرى، رافضا إجراء المناظرة الثانية عن بعد، واصفا قرار اللجنة المنظمة بالسخف، ليتهمه خصمه بعدها بمحاولة الهروب من المواجهة. قد يكون هذا النوع من الشد والجذب أمرا معتادا فى الانتخابات الأمريكية ، إلا أنه اتخذ هذه المرة منعطفا مختلفا عما هو سائد ومستقر لعقود طويلة، وقد عكست المناظرة الأولى هذا الواقع المثير، حيث اتخذت طابعا شخصيا بأكثر مما طُرح فيها من أفكار ورؤى حول القضايا الكبرى داخليا وخارجيا، ولم يتوان بايدن عن نعت منافسه بالكذب والتهريج وبأنه أسوأ رئيس فى تاريخ أمريكا، وحمّله تبعات الفشل فى إدارة أزمة كوفيد 19 التى أدت إلى نكسة اقتصادية كبيرة شبهها بمحنة الكساد العالمى فى الثلاثينيات من القرن الماضي. من ناحيته، قال عنه ترامب إنه مجرد دمية يحركها تيار اليسار الراديكالى داخل حزبه، وإنه نصير للعنف فى المظاهرات التى اجتاحت المدن الأمريكية بل ومحرض عليها، ولم تقف الأمور عند هذا الحد من التراشق بالألفاظ، وإنما تبادلا الاتهامات حول ملفهما الضريبي، خاصة بعد أن نشرت النيويورك تايمز تقريرا يؤكد تهرب الرئيس من دفع الضرائب المستحقة عليه، فى الوقت الذى اتهم الأخير غريمه بالفساد بعد تلقى شركة أسهم نجله فى تأسيسها مبلغ 3.5 مليون دولار من ملياردير روسى وفقا للبيانات التى قدمها النواب الجمهوريون فى الكونجرس. باختصار اتسمت تلك المناظرة إلى جانب الشخصنة فى المواقف بالفوضي، ولم تسفر عن أجندة واضحة لكلا الطرفين، لدرجة أن طالب البعض بوقف هذا التقليد برمته الذى بدأ منذ عام 1960 بالمناظرة الشهيرة بين جون كنيدى وريتشارد نيكسون. وربما تكون القضية الوحيدة التى طغت على هذا العراك الشرس بين المرشحين، هو ما يتعلق ب أساليب احتواء أزمة وباء كورونا ، ولكن حتى عند هذه النقطة المحورية كانت الاتهامات حاضرة، وجسدتها واقعة محاولة اختطاف حاكمة ولاية ميتشجان المنتمية للديمقراطيين، من قبل مجموعة من اليمينيين المتعصبين للعرق الأبيض، على خلفية اتخاذها إجراءات احترازية مشددة قيدت تماما من حرية حركة سكان الولاية، وقد سبق لترامب أن انتقد أسلوبها فى معالجة الأزمة وهدد بوقف التمويل الفيدرالى عن الولاية، وهى بدورها اتهمته بالاستهانة بصحة وأرواح المواطنين، فضلا عن تحميله مسئولية انتشار تلك المجموعات المتطرفة بحكم تعصبه ضد الأقليات وأصحاب الأعراق المختلفة، وهى بالطبع نفس لائحة الاتهام التى يتبناها الحزب الديمقراطي. وبالتالى أصبحت جائحة كورونا ورقة حاسمة فى الانتخابات، وكأنها تصديق لكل التحليلات السياسية المبكرة التى أشارت إلى أن العالم بعدها سيختلف عما كان عليه قبلها، وأنها ستؤئر سلبيا ليس فقط على الاقتصاد وإنما وبنفس الدرجة على الأنظمة الديمقراطية، وستُحدث بها شروخا قد يصعب تداركها على المدى البعيد، وهو ما أبرزته بالفعل الاستعدادات الجارية للانتخابات الرئاسية الأمريكية، إذ تمسك الديمقراطيون بالتصويت عبر البريد الإلكترونى منعا لانتشار الوباء وتحسبا لتردد الناخبين فى الذهاب إلى صناديق الاقتراع، فى حين اعترض ترامب على هذا الإجراء ووصفه بالكارثي، لأنه سيؤدى حتما -من وجهة نظره- إلى أكبر عملية تزوير ستشهدها بلاده، والأخطر مثلما صرح، بأنه لن يعترف وقتها بالنتيجة ولن يغادر البيت الأبيض، ما يُنذر بنزاع قانونى مستقبلا، فى سابقة تُعد الأخطر من نوعها. فى نفس السياق، جاءت إصابته بالفيروس لتطرح السؤال الأهم وهو ما أثرها السياسى على حظوظه فى الفوز، وبالأخص بعدما أظهرت بعض استطلاعات الرأى تفوق منافسه الديمقراطى عليه وبفارق يُعتد به، فهل بذلك يكون قد خرج من السباق؟ لا شك أن كورونا باتت على قائمة اهتمامات الناخبين، فالولاياتالمتحدة كانت الدولة الأكثر تضررا منها على مستوى العالم، سواء فى عدد الإصابات أو الوفيات، وخصوم ترامب يلحون على تلك القضية بالذات، ومازالوا يتخذونها منصة للهجوم العنيف عليه من زاوية تقليله خطرها وتهاونه فى الإجراءات الاحترازية ما تسبب فى زيادة أعداد الضحايا، ودعوته الأمريكيين إلى الخروج للعمل لإعادة بناء الاقتصاد الذى تراجعت مؤشراته على الأصعدة كافة، والمعروف أن الطفرة التى حققها فى هذا القطاع خلال السنوات الأولى من حكمه كانت محورا أساسيا لإنجازاته التى يراهن عليها لكسب فترة ولاية ثانية، وهو ما يعنى خسارته المؤكدة تبعا لهذه الآراء. فى المقابل، سعى ترامب لتوظيف مرضه سياسيا، فقد أصر على صحة موقفه ودلل عليه بنزعه الكمامة فور خروجه من المستشفى لتحية مؤيديه من شرفة البيت الأبيض، وهى حركة رمزية، ورد ضمنى على انتقادات منافسيه تُظهر مصداقيته، باعتبار أنه لا يستثنى شخصه من مطالبته المواطنين التخلص من الخوف والعودة للحياة الطبيعية، بل وأكد الموقف نفسه بعزمه وحماسته لحضور التجمعات الانتخابية رغم تحذير بعض الجهات الطبية منها، واللافت للنظر فى هذا الإطار تصريحه بسرعة تعافيه من الفيروس، ما يعزز من احتمالات التوصل إلى عقاقير متقدمة لمكافحة الوباء، ربما يُعلن عنها قريبا، وهو أمر إن صح سيُحسب له بلا جدال. هكذا تدور المعركة الانتخابية فى جو من التشكيك وعدم الثقة بين الجانبين اللذين يصدرانهما لجمهور الناخبين، فكيف سيكون السلوك التصويتى فى هذه الحالة؟ وعلى ماذا يعول كل منهما لجذب الأصوات؟ الإجابة المنطقية أن كليهما سيعتمد بشكل رئيسى على قاعدته الانتخابية التقليدية المضمونة، فليس خافيا أن التصويت فى الولاياتالمتحدة يخضع فى جانب كبير منه للانتماء الحزبى للعائلات والفئات الاجتماعية المختلفة وفق ما تقتضيه مصلحتها أو انحيازاتها الأيديولوجية والفكرية، بغض النظر عمن هو المرشح عن أى من الحزبين اللذين يحتكران الحياة السياسية، أما مسألة استطلاعات الرأى فلا يمكن الأخذ بنتائجها بصورة كاملة، لأن مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام جميعها مسيسة ومنحازة مسبقا لخياراتها الحزبية المعلنة، لذا يبقى الرهان الحقيقى على المترددين، وليس شرطا أن يكون التصويت هنا عقلانيا تماما، فهناك عاطفة الشعوب التى تتأثر بسلوك أو خطاب ما للمرشح فى اللحظات الأخيرة، والخلاصة أن السياسة تظل عملية شديدة التعقيد ومن الصعب التنبؤ بمن هو الفائز وفق الحسابات الدقيقة وحدها. * نقلًا عن صحيفة الأهرام