عام بعد عام، تزيد السنون لتتخطى 1440 سنة هو عمر التأريخ للهجرة النبوية الشريفة، ولا تزال الذكرى العطرة متجددة شابة شامخة بدروسها وعبرها، بوصلة عتيقة لكل باحث عن سكة السلامة، خصوصًا لمن عبر إلى الشاطئ الآخر من بلاد الغرب مهاجرًا يبغي الخير لنفسه ولغيره، وهذا التحقيق ينقل الدروس المستفادة من هجرة النبي "صلى الله عليه وسلم، على لسان علماء المسلمين في شتى أنحاء العالم. يقول الدكتور شريف عبدالله معوض أستاذ التفسير وعلوم القرآن، المحكَّم الشرعي بمحاكم دبي بالإمارات العربية المتحدة: مما لا شك فيه أن الهجرة النبوية ليست مجرد قصة تُحكَى، وإنما هي مليئة بالدروس والعبر التي إن رجعت إليها الأمة في كل زمان ومكان لاستنقذت نفسها من ذل الحاضر وهوان المستقبل، ومن هذه الدروس التي يجب أن نتعلمها هو الجمع بين الأخذ بالأسباب والتوكل على مسبب الأسباب، هذا ما علمنا إياه الرسول "صلى الله عليه وسلم"، وأيضًا من دروس الهجرة النبوية الاعتدال، فالنبي "صلى الله عليه وسلم" عندما خرج من مكة لم يفقد الثقة في ربه عز وجل ولم يضعف ولم يقنط، وبعدما أراد الله له النصر والعلو في الأرض لم يفتن أو يأخذه الزهو، لذلك يجب على المؤمن أن يكون عبدًا لله في السراء والضراء في الشدة والرخاء، كذلك نتعلم من الهجرة أن العاقبة للتقوى، نتعلم من الهجرة ثبات أهل الإيمان في المواقف الحرجة، وأن النصر مع الصبر، والتضحية في سبيل الله بالمال، فهذا صهيب الرومي يهاجر ويترك ماله بعد ما أجبرته قريش أن يترك ماله إذا أراد الهجرة ففضل سبيل الله على المال لينزل فيه قرآنًا يُتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها " وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ" البقرة (207)، وعندما علم الرسول "صلى الله عليه وسلم" هذا يقول لصهيب الرومي "ربح البيع أبا يحيى". وعن دور المرأة في الهجرة النبوية، يؤكد الدكتور شريف، أن النساء كن أساسًا في نجاح الدعوة والهجرة من أول يوم، فهذه أم المؤمنين السيدة خديجة - رضي الله عنها - تبشر الرسول في وسط الاضطهاد بمستقبل مشرق وتطمئنه وتحوّل خوفه إلى أمن، وهذه سمية أول شهيدة في الإسلام تدفع حياتها ثمنًا للدعوة في سبيل الله؛ لتكون رمزًا لنساء المسلمين في التضحية بالنفس، وهذه أسماء بنت أبي بكر تتحمل الإيذاء من المشركين حتى تنجح هجرة النبي "صلى الله عليه وسلم" وصاحبه أبي بكر، وغيرهن من النسوة اللاتي صاحبن أزواجهن في الهجرة من مكة إلى الحبشة؛ بل وساعدنهم في مهمتهم، كل هذه النماذج تقطع الطريق على كل من يحاول أن ينقص من قدر المرأة ودورها البناء في المجتمع. أما الشيخ حسن مصطفى علي الأزهري، إمام مسجد مكة في مدينة شيكاغو، أستاذ مقارنة الأديان في جامعة لويس بولاية إلينوي الأمريكية، فقال: ارتبطت الهجرة بالنية في حديث الرسول "صلى الله عليه وسلم": "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" و"من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله"، فكما أن النية بداية لعمل جديد، فالهجرة أيضًا نقطة فاصلة وبداية جديدة في حياة الإنسان، ومصطلح الهجرة في المجتمع الأمريكى فارض نفسه بطبيعة أن معظم المواطنين من المهاجرين، ولكن نحن مسلمي أمريكا نفهم هذا المصطلح جيدًا أكثر من غيرنا؛ لأنه جزء متأصل في تاريخنا الإسلامي بهجرة الرسول "صلى الله عليه وسلم" وبداية إعمار الأرض وإقامة العدل؛ ولذلك يجب على كل مسلم اختار الهجرة أن ينوي نشر تعاليم الإسلام السمحة، ونفع مجتمعه. وأضاف إمام مسجد مكة بشيكاغو، أن الهجرة النبوية تذكرنا كيف استطاع النبي "صلى الله عليه وسلم" ترشيد طاقات المجتمع فاستعان بالشباب والنساء والشيوخ، حتى إنه استعان بغير المسلمين في أن يكون دليلهم إلى المدينة، وهذا درس في قمة التعايش مع أهل الديانات الأخرى، كل على قدم المساواة والنفع. وننتقل بدروس الهجرة النبوية الشريفة، من الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى كندا؛ حيث يحدثنا عن الذكرى العطرة، الشيخ حسين عامر عضو مجلس أئمة مقاطعة كيبك الكندية، إمام وخطيب المركز الإسلامي بمدينة "لافال" الكندية، قائلا: هاجر رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فانطلق بالخير الذي يحمله، والنور الذي جاء به لينتشر في مشارق الأرض ومغاربها، فما بقيت بقعة على وجه الأرض الآن إلا وفيها مسلمون، والنبي الكريم بشّر بهذا الانتشار فقال: "إن الله زوى لي الأرض وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها"، والإنسان على المستوى الشخصي يكره التغيير والانتقال، ويكره أمورًا كثيرة تحدث في حياته، ثم مع مرور الوقت يرى أن ما حدث له كان خيرًا كبيرًا، لكن حكمة الله تعالى ألا تطلع على هذا الخير ابتلاء واختبارًا. وأفاد بأن على المسلمين في العالم أن يفعلوا مثل النبي "صلى الله عليه وسلم؛، حيث كان مع التضييق والابتلاء يتعبد لله بعبادة الأمل، وبث هذا الأمل في نفوس أتباعه، قائلًا: هل نتخيل أن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" الذي خرج من مكة مستضعفًا معه عدد قليل من المسلمين، بالإضافة لإخوانهم بالمدينة، كان عددهم ألف وخمسمائة نفس فقط، هؤلاء كانوا سببًا في تغيير وجه العالم؟! فأنت أيها المسلم حينما ترى ما يحدث وما هو كائن وما سيكون تعمل تتحرك بإيجابية بما آتاك الله في حدود القدرات والإمكانات المتاحة، لكن لا تيأس أبدًا واستبشر خيرًا أن الملك بيد الله يدبره سبحانه وتعالى. وعن سؤال لماذا نحتفل كل سنة في شهر محرم بالهجرة النبوية، يجيب الدكتور عمار مُنلا، المتخصص في السيرة النبوية، مؤسس قسم المخطوطات في مركز بحوث ودراسات المدينةالمنورة، قائلًا: عندما أراد الصحابة رضوان الله عليهم في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يؤرخوا للأمة تداولوا عدة آراء، فمنهم من قال: نؤرخ بمولده "صلى الله عليه وسلم"، وبعضهم قال: نؤرخ ببعثته "صلى الله عليه وسلم"، وذهب آخرون للتأريخ بوفاته "صلى الله عليه وسلم"، فقرأ عمر رضي الله عنه قول الله تعالى في وصف مسجد قباء وأهله: "لمسجد أسس على التقوى من أول يوم........" فأول يوم هو يوم هجرته "صلى الله عليه وسلم"، عندما أسس مسجد قباء، ولكن تعارفت العرب أن تبدأ العام في شهر محرم، فجعلوا عام الهجرة أول التأريخ لأمة الإسلام، ومن هنا بدأ التاريخ، ومن هنا بدأت الحضارة. أما الدكتور حسن عثمان الأزهري، رئيس قسم الفقه والأصول بالجامعة الإسلامية بالعاصمة الشيشانية جروزني، فقال: كانت الهجرة النبوية ضرورة حتمية اقتضتها مسيرة الدعوة الإسلامي؛ لأن قريشًا تلقتها بالغلظة والجفوة في مكة، ولم يجيبوا رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، عندما دعوهم إلى الإسلام 13 سنة، أما الدروس المستفادة من هجرة الرسول "صلى الله عليه وسلم" أنه بذل أقصى جهده في سبيل الإعداد لهذا الحدث الكبير، فكانت معونة الله تلازمه؛ لأن عون الله مرتبط بحسن التوكل عليه، كذلك كان النبي "صلى الله عليه وسلم" على يقين تام بنصر الله عز وجل، ومن يكن على يقين بنصر الله يفُز به، وكذلك من دروس الهجرة الحب والإخاء الذي نشأ بين المهاجرين والأنصار، وكان سببًا في نصرة هذا الدين، وهذا ما يحتاج إليه المسلمون الآن حتى ينهضوا بدولهم. وأوضح الدكتور حسن الأزهري أن مسلمي الشيشان يستقبلون العام الهجري الجديد بالبهجة والفرح متمنين أن يكون عام خير وبركة عليهم، قائلا: كذلك نحن علماء الدين نوضح في كل بداية عام هجري جديد دروس الهجرة التي نريد أن نطبقها الآن في المجتمع الشيشاني بعد ما عبر الفترات العصيبة بداية من فترة الإلحاد والشيوعية ثم فترة الحروب الطاحنة، فأردنا أن نرسخ في أنفسهم التسامح والتمسك بتعاليم الإسلام الصحيحة السمحة التي تعلمناها في الأزهر الشريف، والإقبال على العلم وطلب العون من الله حتى ينصرنا في النهضة ببلدنا الحبيب الشيشان. ويستكمل مسيرة الهجرة في نفوس مسلمي روسيا، الشيخ نضال أحمد الحيح، نائب رئيس الإدارة الدينية لمسلمي حوض الفولجا بروسيا الاتحادية، قائلًا: الهجرة النبوية بالنسبة للمسلمين في حوض الفولجا بروسيا الاتحادية - وهم أقلية - تعد ربطًا وثيقًا بتاريخهم الإسلامي؛ وكذلك تعد نقطة مركزية في تاريخنا حيث تحول الإسلام من مرحله الدعوة في مكة والإيذاء والضعف، إلى مرحلة التمكين وبناء الدولة في المدينةالمنورة، وتنظيم شئون المسلمين، والتي أفرزت مجتمعًا إسلاميًا راقيًا وحضارة مزدهرة تركت بصماتها على تاريخ الإنسانية أجمع. وتابع الشيخ نضال: إن أهم دروس الهجرة النبوية الشريفة التي نؤكدها لمسلمي حوض الفولجا أن هجرة الرسول "صلى الله عليه وسلم" لم تكن عشوائية، وإنما كانت منظمة ومخططًا لها جيدًا، لذلك لم يكن النبي الكريم "صلى الله عليه وسلم" أول من هاجر، وأن التخطيط من أول مؤشرات النجاح والفلاح، ولذلك نعمل على غرس تلك الفضيلة النبوية في نفوس مسلمي روسيا؛ التخطيط في حياتهم الأسرية والعملية، والبعد عن التعصب والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وهجرة المعاصي، وعدم التواكل على الرفاهية، وإنما التوكل على الله، والتسلح بسلاح العلم؛ لأن كل ذلك يصب في مصلحة المجتمع المسلم؛ خاصة والمجتمع الروسي عامة، فالمسلم لابد أن يكون مثل الغيث أينما وقع نفع.