هذا الجدل مستمر منذ مئات السنين، منذ توقف الاجتهاد في علوم الدين والاعتماد على رؤى السلف؛ خاصة في مبدأ المعاملات وليست العبادات والإسراف في استخدام مصطلحات التحريم دون نصوص؛ اعتمادًا على استنباط السلف. وبرغم الحديث النبوي الصحيح (إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا) وقد اعتاد السلفيون على تفسيره بأنه كلما انحرف الناس عن جادة الدين الذي أكمله الله لعباده بعث لهم علماء أو عالمًا بَصِيرا بالإسلام وداعيةً رشيدًا يبصر الناس بكتاب الله وسنة رسوله الثابتة، ويجنبهم البدع، ويحذرهم من محدثات الأمور، ويردهم عن انحرافهم إلى الصراط المستقيم بكتاب الله وسنة رسوله "صلى الله عليه وسلم" فسمي ذلك تجديدًا للأمة وليس للدين الذي شرعه الله وأكمله؛ ذلك أن الضعف والتغيير والانحراف يطرأ مرة بعد مرة على الأمة، أما الإسلام نفسه فهو محفوظ بحفظ كتاب الله تعالى وسنة رسوله "صلى الله عليه وسلم" بقول الله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، ويرى البعض أن العلماء ورثة الأنبياء؛ ذلك لأن بنو إسرائيل كان يسوسهم الأنبياء، كلما رحل نبي خلفه نبي، ولما أختتمت النبوة بسيدنا محمد "صلى الله عليه وسلم"، جعل الله العلماء ورثة الأنبياء، يجددون لهذه الامة أمر دينها كلما تراكمت عليه البدع والمحدثات. واتفق العلماء أن عمر بن عبدالعزيز كان على رأس المائة الأولى، والشافعي كان على رأس المائة الثانية، وهما نموذجان للمقصود بالمجدد، وهناك حديث مختلف عليه مروي مرسلًا ومتصلًا عن جماعة من الصحابة مرفوعًا (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين). وعمومًا ففي قلة أحاديث المجددين إشارة إلى قلتهم في أنفسهم فضلًا عن تباعد زمانهم، وهذه عادة القرآن الكريم والسنة في الغالب، كلما عز حديثهما في أمر كان ذلك إشارة إلى قلته. وطبعًا هناك من المتكلمين ومدعي الليبرالية الجديدة يزعمون أن الحق ما عليه الناس، ولو خالف الحق، بمنطق هذا ما وجدنا عليه آباءنا، وكأن القرآن الكريم والسنة لايصلحان لكل زمان ومكان. والإمام مالك له قول شهير (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها)، وصار للتشدد والتطرف والتكفير أنصار، والتبس الأمر في فوضى المصطلحات. وبات المسلم أيًا كان متهمًا؛ حتى يثبت العكس، وانتشر التطرف على جانبي النهر بين غلاة العلمانية والمتشددين، وكلاهما على باطل؛ لأنهم يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، وهناك من يسرف في لغو الحديث؛ كارضاع الكبير، ومضاجعة الميتة، والتحريض على احتقار المرأة. وعلى الجهة الأخرى يطالب العلمانيون بدين جديد؛ بزعم الرجوع للمقاصد السامية للدين وتنقيحه حتى لايكون دينًا للموتى؛ على حد زعم معظمهم؛ وذلك بتنقية ما في السنة من الخرافات والظلم في مجال التشريع، ويجب إخضاع السنة على مصفاة العقل الواعي؛ لتنسجم مع منظومة القيم التي أنتجتها البشرية، وبعد ذلك البحث عن قراءة جديدة للنص القرآني؛ أيضًا ليتماشى مع منظومة الأخلاق العالمية بأن ترد هذه الآيات إلى سياقها التاريخي، وينتهي الليبراليون إلى الرجوع إلى المقاصد السامية للدين، وإنتاج تشريع يصبو لهذه المقاصد، ولا يبقى حبيس النص وما ينجز عنه من غرائب الأحكام - على زعمهم - ثم يضعون نصوصًا وأحكامًا من صناعتهم؛ كاستبدال تحريم الخمر بمنع ومعاقبة السكر العلني، واستبدال تحريم الربا بمنع ومعاقبة الاستغلال الاقتصادي للأفراد؛ لإنهاء الجدل حول ما هو نبيذ، وما هو بنوك ربوية وبنوك إسلامية، وكثير من مثل تلك الأمور الملتبسة، والتي تصل عند بعضهم للهرطقة والخروج من الملة، وعند الرد عليهم، لديهم اتهامات محفوظة تبدأ باتهام مخالفيهم بالتخلف، وتنتهي بالتطرف والإرهاب. ولكل هذا، فإن الحاجة إلى فتح كل أبواب الاجتهاد هي فرض عين على الأمة، وليس شرطًا أن يكون الاجتهاد أو التجديد عملًا فرديًا؛ ولكن هناك مجامع البحوث، وكبار العلماء؛ ليصبح التجديد والاجتهاد عملًا مؤسسيًا؛ بشروط العصر الراهن، وربما يكون ذلك هو أول بدايات الفهم الأوسع للنص.