أرى دائما أن أنطون تشيخوف هو الأجدر بلقب "رجل الحروف"، كما يطلق الإنجليز على الأدباء، فهو رجل الحرف النابض، الصورة المثالية للأديب صاحب الحس المرهف، المحب المخلص، حتى سخريته اللاذعة ليست سوى تعبير صادق من رجل يرى ما لا يراه غيره، رجل يعشق الإنسان، ويحب أن يراه بحال أفضل. في كل مرة أقرأ كلماته أشعر بميلاد جديد. فهي تمنحني رؤية مختلفة لكل شيء، أصعد معه سلما حريريا ناعما نحو الخلود. معه عرفت كيف يمكن للانسان أن يبقى، أن يمحو فكرة الموت ويواصل الحوار مع الإنسان في كل مكان وزمان. في خطاب إلى أنطون تشيخوف، طلب مكسيم جوركي من الله أن يمد في عمرتشيخوف حتى يدوم مجد الأدب الروسي، وعبر له عن محبته وتقديره وإعجابه قائلا: "أود أن أعبر لكم صراحة عن محبة كبيرة أكنها لكم منذ نعومة أظافري؛ أن أخبركم بكم المتعة التي تمنحنا إياها موهبتكم الفذة، تلك الموهبة الآسرة للروح، التراجيدية، البديعة دوماً، والرقيقة كذلك.ثم واصل "كم من لحظات رائعة عشتها مع كتبك، وكم ذرفت الدموع فوق صفحاتها، ويصيبني السعار كذئب وقع في فخ، ثم لا ألبث أن أضحك طويلاً وقد مس روحي الأسى". وأكد جوركي أيضا، أن حضور تشيخوف يمنح أي إنسان شعوراً بالراحة والطمأنينة ويجعله أكثر صدقاً، وغالباً ما يتخلص الناس في حضرته من تلك الرغبة الرخيصة في استعارة عبارات جميلة، تلميحات ذكية من الكتب، على سبيل الوجاهة والظهور كمثقفي أوروبا. وقد كان تشيخوف ينزعج بشدة عندما يرى بني جلدته يحاكون الأجانب رغبة في التباهي، وكان يدفعه ذلك إلى محاولة تحريرهم من هذا القهر الذي يمارسونه على أنفسهم، ومحاولة التوصل إلى الوجه الحقيقي والروح الحية الأصيلة التي بداخلهم. ولا تروق لتشيخوف تلك الحوارات التي يتحدث فيها أحباؤه الروس عن الملابس المخملية في حين أنهم لا يجدون كسرة خبز تسد جوعهم. إنه إنسان صادق بسيط يحب كل ما هو أصيل، ويملك المقدرة على نقل هذه الصفات الجميلة للناس. إن إبداع تشيخوف له سحر خاص، وشخصية متفردة، ليس مثل تالستوي أو داستيفسكي، فإنك تشعر مع قراءة تشيخوف أن هناك قدرا كبيرا من الحميمية ينشأ بينك وبين كلماته، لا يراوغك أو يضعك في حيرة، إنما يأخذك في رحلة بصحبة رجل نبيل يضع يده على معايب النفس الإنسانية، ويساعدك على اكتشاف ذاتك، دون أن تشعر بالغضب الشديد الذي يعتصر قلبه لكل ما أصاب النفس البشرية من فساد أو تشوه، ويحاول جاهدا أن يتماسك في وسط عالم صار الشر فيه سائدا. إن تشيخوف يحمل مفاتح الشخصية الروسية، بل سر روسيا بأكملها، وفي ذات الوقت تشعر وكأنه يخاطب الإنسان في كل مكان، وقد استطاع بهذه الصفات الإنسانية الراقية أن يصل للقراء في كل اللغات في أركان الأرض وعبر العصور المختلفة، حتى مع تغير العالم عدة مرات. ولم يقتصر تأثير تشيخوف الكبير على القراء والمثقفين، بل له تأثير عظيم على مبدعي المسرح والقصة والرواية في العالم أجمع، وهذا ما أكده الكاتب البريطاني الشهير برنارد شو، حين أكد عظمة تأثير تيشخوف عليه ككاتب مسرحي، وكما أشار أيضا انجمار برجمان إلى قدرة تشيخوف التي انعكست على صناع الفن في العالم. وقد أكد كاتب روسيا العظيم ليف تالستوي على أهمية تشيخوف وتأثيره الكبير في الأدب العالم، وليس في روسيا فحسب. تشيخوف الذي ولد في مدينة تاجانروج الصغيرة، تمسك بمهنة الطب إلى جانب الأدب، وواصل علاج المرضى وكتابة القصص والمسرحيات. استخدم اسما مستعارا "انطوشا تشيخونتا"، ولكنه بعد ذلك استخدم اسمه الحقيقي. نقلته قصة "العسل البري" نقلته إلى العواصم الأوروبية من خلال الترجمة، وعرضت على المسرح بلندن. وحصل تشيخوف على جائزة بوشكين عام 1988 عن مجموعته القصصية "الغسق." وقام تشيخوف بمغامرة مفاجأة حين رحل إلى جزيرة سخالين في أقصى شرق روسيا. استهدف تشيخوف من رحلته إلى سخالين رؤية معاناة الناس والحياة الصعبة في هذه البقعة السوداء من روسيا، حيث كانت تلك المنطقة هي مكان الأشغال الشاقة ومنفى المغضوب عليهم من القيصر، إلى جانب أن جوها في منتهى القسوة. وقد كان لتشيخوف مساهمات إنسانية رائعة على مدار حياته، حيث قرر في وقت ما أن يمارس مهنة الطب بالمجان، وبنى عدة مدارس ومستوصفات للمحتاجين من الناس. إضافة إلى أنه قام بعمل شاق وقت انتشار الكوليرا وخدم الناس بكل ما أوتي من قوة. وعندما اشتد المرض بتشيخوف رحل إلى القرم ويالطا للاستشفاء، وفي تلك الفترة كان يستقبل عظماء الأدب والفن الروسي مثل تالستوي، شاليابين، رحمانينوف، جوركي، بونين. ما لا يعرفه الكثيرون عن شخصية تشيخوف، أنه كان دائم المرح، يسخر من كل شيء، رغم كل العناء الذي مر به في حياته. وقد غادر دنيانا بكل كبرياء وعزة نفس وبساطة دون ضجيج. عاش حياة قصيرة جدا، فقد مات في سن الرابعة والأربعين، لكنه ترك تراثا خالدا للعالم أجمع، وليس لروسيا فحسب. وقد كتب عن تشيخوف المئات، وربما الآلاف من الكتب، سواء من معاصريه أو ممن جاء بعده، في روسيا والعالم. وقد صنعت هذه الكتابات صورة شبه كاملة عن تشيخوف من زوايا مختلفة لم يرها الناس، انما شاهدها أصدقاءه من الكتاب والمبدعين والفنانين ممن عاشوا معه وعرفوه عن قرب. ولأنطون تشيخوف تأثير كبير على الأدب العربي في مراحله مختلفة، وقد حدث أنه من فرط تأثير تشيخوف على يوسف إدريس أن قرر الكاتب المصري الكبير الثورة على هذا التأثير والخروج من عباءة أنطون تشيخوف. هذا إلى جانب تأثيره على أديب نوبل المصري العظيم نجيب محفوظ، إضافة إلى محمد المخزنجي وغيرهم. ويعتبر تشيخوف إلى جانب ادجار الان بو، وموباسان، من أكثر من أثر على كتاب القصة في مصر وشكل وعيهم خلال سنوات تشكيلهم الأولى، وربما امتد هذا الأثر إلى آخر أيامهم. ولا زال تأثير تشيخوف على الأجيال الجديدة واضحا، إضافة أن القراء يقبلون على قراءة كتبه حتى اليوم، وتحقق قصصه المترجمة ومسرحياته رواجا كبيرا بين الأجيال الشابة في مصر والعالم العربي، وذلك رغم ضعف الإقبال على القراءة في العالم العربي بوجه عام. أحمد صلاح الدين