في الطريق للمدبح القديم، بمنطقة زينهم، افترش مجموعة من النسوة الأرض، ووضعن أمامهن أواني كبيرة من الألمونيوم، امتلأت عن أخرها ب "السقط" أو أكسسوارات اللحوم، ممبار وكرشة ولحمة رأس، وأشياء أخري، هي لحمة الغلابة في عيد الأضحي. "السقط" لحمة الغلابة في العيد.. و"البشكار" المورد الأساسي| فيديو بالرغم من نقل المدبح الآلي، لمنطقة البساتين، إلا أن محلات الجزارة، والعاملين في المدبح القديم، بمنطة أبو الريش، استمروا في عملهم، في جلب "السقط"، من المدبح الآلي، وتجهيزه وبيعه للمحلات، وللزبائن الذين يحضرون لشرائه والبحث عنه. داخل المحلات تراصت رؤوس المواشي، بجميع أنواعها، عجول وخراف وجمال، وأنهمك العاملون في تنظيف أجزاء الذبيحة وتصنيفها، ووضعها في أكياس مملوءة بالمياه لحفظها، قبل بيعها للزبائن، أو توزيعها علي المطاعم والمحلات. فيما انشغل آخرون في سن السكاكين، داخل محلات مخصصة لذلك، امتلات بجميع أنواع المعدات، التي يستخدمها الجزار، في الذبح والسلخ والتقطيع، لتتعالي أصوات مكن السن، ويعج المكان بالحركة، دون وجود بيع أو شراء. وسط كل ذلك جلست أم خالد، السيدة الستينية العجوز، أمام إناء مملوء بالمياه، وضعت بداخله السقط والممبار، وسط بركة من المياه، في انتظار زبائن لم يحضروا هذا العام، تقول بعصبية:" هذا العام لا يوجد بيع ولا شراء، والمدبح خالٍ من الزبائن، بسبب ارتفاع الأسعار". تفسر أم خالد عدم وجود إقبال، علي شراء "السقط" هذا العام، للارتفاع الشديد في أسعار اللحوم، الذي تبعه ارتفاع في أسعار أكسسوارات اللحوم، كما يطلقون عليها، والتي تمثل وجبة أساسية للأسر الفقيرة، التي كانت تحضر للمدبح، في مثل هذا التوقيت لشرائها. في محل مقابل لفرش الذي تجلس خلفه أم خالد، أنهمك ومجموعة من الشباب والعاملين، في تنظيف الكرشة وأرجل الحيوانات والرؤوس، التي تراست علي تربيزة حديدية. يقول أشرف سعيد الشاب الثلاثيني، الذي يعمل في هذه المهنة منذ أكثر من 20 منذ كان طفلاً في العاشرة من عمره:" نعمل هنا في تنظيف "السقط"، وهي أجزاء معينة في الذبيحة، تحضر إلينا من المدبح الآلي، نقوم بتجهيزها وبيعها، ولكن هذا العام الإقبال ضعيف، بسبب غلاء الأسعار". يشير أشرف علي التربيزة التي أمامه، والتي أمتلأت عن آخرها بالسقط ورؤس المواشي، فيما تغيب الزبائن هذا العام، بعد أن وصل سعر كيلو اللحم القائم ب 62 جنيهًا، بعد أن كان العام الماضي 40 جنيهاً فقط، ليتضاعف سعر كيلو اللحم الصافي ليصل ل 150 جنيهاً. وهو ما أدي لارتفاع سعر لحمة الرأس وأكسسوارات اللحوم، ليصل سعر الرأس الضاني ل 20 جنيهاً، بعد أن كان 5 جنيهات فقط العام الماضي، وكيلو الكرشة ل 25 جنيهاً، بعد أن كان 10 جنيهات العام الماضي، وهو ما أثر بالسلب علي حركة البيع والشراء، وعدم قدرة الغلابة علي الشراء. يفسر أشرف هذا بالارتفاع العام في الأسعار، وعدم وجود رقابة حقيقية علي محلات الجزارة، التي تقوم بعضها بالغش وتحقيق مكاسب كبيرة، عن طريق بيع الكبدة المستوردة علي أنها بلدي، أو خلط اللحم المستورد بالبلدي، وبيعه علي أنه لحم بلدي، والاستفادة من فرق السعر. "البشكار" سمسار المدبح تركنا أشرف وزملاءه منهمكين في عملهم، قبل أن نتحرك وسط بركة من المياه، والأواني المملوءة بالسقط، التي تجلس خلفها مجموعة من النسوة، الذين ينادون علي بضاعتهم ويصدرون أشارات للمارة لتحفيزهم علي الشراء. وسط كل ذلك، تجمع مجموعة من الباعة، خلف تربيزات حديدية، تراصت عليها أجزاء من اللحوم، المقطعة قطع صغيرة، كسر عليها ألواح من الثلج، لحفظها من التلف، وتزاحم عليها مجموعة كبيرة من الذباب. وبين الحين والآخر تأتي إحدى السيدات، وتقوم بمعاينة اللحوم، والتي وصل سعر الكيلو منها ل 50 جنيهاً، وتركها لارتفاع سعرها بعد الفصال مع البائع، خلف إحدي هذه التربيزات وقف السيد خلف، وهو رجل خمسيني، يتحدث بصعوبة، بعد أن أنهكه المرض. كان في الماضي يعمل "صنايعي" في المجزر، يجيد الذبح والسلخ والتقطيع، وكل فنون الجزارة، ولأنه أب لخمسة أولاد، قرر العمل في بيع اللحم، التي يحصل عليها من المدبح يقول:" أحصل على هذه اللحوم من البشكار، الذي يقوم بتجميعها خلال عملية الدبح، أو يحصل عليها بدل من أجرته". و"البشكار" هو اللفظ الذي يطلقه الجزارون، علي العمال الذي يقومون بتقطيع العجل، وتوضيبه بعد الذبح، وإخراج أحشائه وفصل أجزائه، ويحصل هؤلاء علي أجزاء من العجل، بدلاً من الحصول علي مبلغ مالي نظير عملهم، ويجمع بعضهم اللحوم المتساقطة في المدبح، ويبعونها للسريحة أمثال السيد وزملائه. ويكمل السيد حديثه وهو يتحدث بصعوبة:" بعد الظهر يأتي "البشكارة" للمدبح هنا، نشتري منهم اللحوم، ونقوم ببيعها للزبائن، الذين امتنعوا عن الشراء بسبب ارتفاع الأسعار". يمسك الرجل قطعًا من اللحم بين يديه، وهو يؤكد أنها لحوم بلدية، ذبحت فجر هذا اليوم، يقبل عليها ربات البيوت، لاسيما أن سعرها منخفض، بالمقارنة بسعر اللحوم الآن، بالرغم من ذلك وصلت حالة الركود لهذه اللحوم، بسبب ارتفاع سعرها، من 30 جنيهاً العام الماضي ل 50 جنيها هذا العام. لحمة الغلابة قاطع عم السيد أثناء حديثه، مجموعة من زملائه، منهم محمد حسين، الذي يعمل في المدبح منذ 10 سنوات، يقول:" البضاعة غالية نار، والناس مش قادرة تقاوم، هنا تباع لحمة الغلابة، الفشة والممبار والحلويات، كما يطلقون عليها، أسعارها ارتفعت بشدة، والفقراء أصبحوا لا يستطعون شراءها". يحكي محمد عن قصص الغلابة، الذين يحضرون للمدبح للحصول علي السقط والحلويات، وبعضهم لا يمتلك ثمنها، بعد الارتفاع الجنوني في أسعار اللحوم. يشير الرجل شوارع المدبح، والترابيزات التى امتلأت عن آخرها باللحوم والسقط، دون وجود زبائن وزحام، كما هو معتاد قبل عيد الأضحي في كل عام. يلتقط منه طرف الحديث، رجل أشيب ستيني، اسمه عم محمد مدبولي يقول:" يحضر لهذا المدبح الناس الفقراء الغلابة، لشراء "السقط" وحلويات اللحوم، بعد وصول سعر اللحمة لأكثر من 150 جنيهاً، وصاحب العيال والأسر المتوسطة، لا تستطيع شراؤها، وعيد الأضحي هو عيد اللحمة والأوضاع صعبة للغاية". يستنكر الرجل ما تقوم به وزارة التموين، وعدم دعمها بشكل حقيقي للحوم، وهو ما أدي لارتفاع أسعارها، ويقارن بين ما كانت تقوم به الوزارة في الثمانينيات والتسعينيات، من مراقبة للأسعار ومحال الجزارة، وتدخلها بضخ لحوم في الأسواق، وما تقوم به الآن. بعد أن تركت المجال للمستثمرين، لاستيراد اللحوم من السودان وإثيوبيا، وطرحها في الأسواق بأسعار تصل أو تقترب من أسعار اللحوم البلدية، وهو ما جعل الفقراء في موقف صعب، بين ارتفاع الأسعار اللحوم البلدية، ومضاربات المستثمرين علي اللحوم المستوردة. علي طول المدبح القديم، جلس باعة ببضاعتهم من "السقط" ولحمة الغلابة، في انتظار زبائن لم يحضروا هذا العام بسبب ارتفاع الأسعار.