تسعي المؤسسات الدينية جاهدة، لبذل أقصي جهد لمواجهة الإرهاب والتطرف، في محاولة للرد علي الفهم الخاطئ للدين، وما تبثه بعض الكيانات الدينية من فتاوى وفكر متطرف . كانت دار الإفتاء المصرية، أولي المؤسسات الدينية، التي سعت لإنشاء جهة متخصصة في رصد الفكر المتطرف، ومحاولة التصدي له ففي عام 2014، أنشأت مرصدًا لرصد الفتاوي التكفيرية، يقوم بمتابعة مقولات التكفير في جميع وسائل التواصل المقروءة والمسموعة والمرئية وعلي شبكة الإنترنت ومواقع التواصل، وبشكل عام، فإن عملية الرصد، تتسم بالشمولية والاتساع بشكل مباشر أو غير مباشر، بأمور الفتاوى والآراء الدينية المرتبطة بها في كافة المجالات والموضوعات. كما يقوم المرصد، برصد الظواهر والأسباب المؤدية لنشوء مثل تلك الآراء والفتاوى المتشددة، والسياق الذي يأتي في إطاره، وعلاقته بالأطراف المختلفة في المجتمع، لذا يهتم المرصد بكافة الفتاوى الصادرة عن المؤسسة الدينية المصرية (الأزهر والأوقاف والإفتاء والهيئات التابعة لهم) والحركات والتيارات والفرق الإسلامية المختلفة، كما يقوم المرصد، بمتابعة الفتاوى الصادرة عن رجال الدين والأفراد من كافة الاتجاهات والتيارات المختلفة. وفي 2015، افتتح الإمام الأكبر، الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، "مرصد الأزهر باللغات الأجنبية" وقد وصفه، بأنه "عين الأزهر الناظرة على العالم"، ويقوم من خلالها بقراءة وتتبع ما يتم نشره بهذه اللغات عن الإسلام والمسلمين، مع التركيز على ما ينشره المتطرفون من أفكار ومفاهيم مغلوطة، وذلك متابعة منه لما يحدث فى العالم من مستجدات وقضايا، يعمل على رصدها ومتابعتها وتحليلها أول بأول، والرد عليها بموضوعية وحيادية، لنشر الفهم الصحيح لتعاليم الإسلام ووسطيته، ومن ثم مجابهة الفكر المنحرف والمتطرف، وتفكيكه، لتحصين الشباب من مختلف الأعمار من الوقوع فريسة فى براثنه. فيما لحقت بهم وزارة الأوقاف، مؤخرا، فأنشأت خلال العام الجاري، مركز الأوقاف لمكافحة الإرهاب والفكر المتطرف، ومن المقرر، أن يضم المركز جميع البحوث والدراسات التى تواجه الفكر المتطرف. وأطلق مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة، التابع إلي دار الافتاء، قبل أيام أُولى فعاليات مشروع "تشريح العقل المتطرف"، الذي يهدف إلى فهم وتشريح الفرد المتطرف، والعوامل الأساسية والدافعة نحو التطرف، والمراحل التي يمر بها المتطرف وصولًا إلى العمل الإرهابي والتفجيري، وذلك عبر عقد مجموعة من جلسات العصف الذهني، وورش العمل، للخروج بنماذج واضحة، ودليل كاشف لأنماط المتطرفين، ومراحل تحولهم، سواء في الداخل أو الخارج. والسؤال الذي يطرح نفسه، ما هو الدور المنتظر من رجال الدين والمؤسسات الدينية في مواجهة الإرهاب خلال المرحلة القادمة ؟ يري الدكتور هلباوي محمد متولي، أستاذ التفسير بجامعة الأزهر، أن ظهور التنظيمات المتطرفة التي تبيح القتل والتخريب والتدمير، بحجة أنهم يخدمون الإسلام، هؤلاء ليسوا مسلمين، والإسلام منهم براء، فقد أساءوا إلي الإسلام، وألصقوا به وصفا لا يليق، فلو تصفحنا كل تعاليم الإسلام الحنيف، لوجدناه دين الرحمة ودين الأخلاق السامية ودين التسامح، أما هؤلاء الناس فهم أعداء للإسلام وهم امتداد للخوارج. يتابع هلباوي، ولذلك فان من واجب العلماء، محاربة هؤلاء بإقامة ندوات للحوارات التي تقرع الحجة بالحجة، والدليل بالدليل، هذا إلي جانب أن تحتوي المناهج الدراسية، في مدارس التربية والتعليم، في مادة الدين، علي بيان شامل لعظمة الإسلام، وأنه الدين الذي ينبذ العنف، ويحرم القتل والتخريب والتدمير، وأنه دين الرحمة، الذي يدعو إلي مكارم الأخلاق، وأن تشمل تلك الدراسة علي بيان خطأ هؤلاء الخوارج المارقين، وبيان انحراف فكرهم عن المنهج الإسلامي الصحيح، وذلك بالأدلة القوية والبراهين الساطعة. من جانبه، يقول الدكتور محمد سيد ورداني، مدرس الإعلام المساعد بجامعة الأزهر: إن الحديث عن دور رجال الدين في مواجهة الإرهاب والتصدى للجماعات التكفيرية، يحتاج أولا لأن نحدد الأسلحة التي يمتلكها رجال الدين، حتى لا نلقى اللوم كاملا عليهم، خاصة وأن مواجهة الإرهاب قضية ليست بالهينة، ولا يمكن أن تقوم بها فئة واحدة بمفردها. تابع ورداني قائلا: رجل الدين يمتلك سلاح العلم والفكر ولا أنكر أن هذا السلاح هو الأقوى في مواجهة الإرهاب، إلا أنه لا يمكن أن يقضي على الإرهاب بمفرده، ولكنه في حاجة إلى تكاتف الجميع، حتى يتم القضاء على المنبع الأساسي للأفكار المتطرفة. أوضح، أن مواجهة جماعات إرهابية بفكر مستنير، يحتاج إلى أن يمتلك هذا الفكر أدوات قوية تمكنه من الوصول للناس والشباب، وحماية عقولهم من مخاطر التطرف، قبل أن يصل إليهم المتطرفون، خاصة وأنهم مدعومون بشكل أقوى لاستقطاب أكبر قدر من الشباب. واستطرد ورداني قائلا: إن الأزهر الشريف له دور مهم في هذه المواجهة، وهو ما يتم بالفعل، من خلال حملاته التوعوية المستمرة التي تستهدف الوصول إلى الشباب، ومختلف شرائح المجتمع، كل حسب الأداة والطريقة التي تتفق مع اهتماماته؛ فهو يبادر بهذه الحملات، ويطلقها إلكترونية، من خلال إصدارته المتنوعة التي تصحح مغالطات هذا الفكر المتطرف عن الدين، ومن خلال استقباله للفتاوى والأسئلة المتنوعة في القضايا المعاصرة والشبهات المثارة، ويجيب عليها بنفس الأسلوب. أضاف، أن المؤسسات الدينية ورجال الدين، ينبغي أن تتنوع أدوات التواصل لديهم، سواء تواصل مباشر، من خلال القوافل والجلسات النقاشية والندوات الحوارية، أو تواصل غير مباشر، برسائل توعية غير مباشرة، وهو ما يقوم به رجال الأزهر الشريف في كل مكان، فضلا عن الدور الذي لا ينسى لبيت العائلة المصرية في هذا الشأن، وما تقوم بتنظيمه من لقاءات وحوارات شبابية في مختلف المحافظات. من جانبه، يقول دكتور كمال بريقع عبدالسلام، عضو مركز الحوار بالأزهر الشريف: لاشك أن ظهور الجماعات المسلحة قد فرض واقعا جديدا على الساحة الدولية، ومثل تحديا أيديولوجيا كبيرا بالنسبة للقادة الدينيين والمؤسسات الدينية للقيام بواجبهم فى مواجهة هذا الخطر، وتوضيح الصورة الحقيقية لتعاليم الأديان، وتقديم خطاب دينى مقنع يصل إلى عقول الناس وقلوبهم، واستعادة الكثير من ثقة المجتمع فى هذا الخطاب، والتى تأثرت على مدار عقود عديدة نتيجة لعوامل مختلفة منها: - الصورة النمطية الغريبة والمتناقضة التى تقدمها وسائل الإعلام المختلفة لرجل الدين، والتى تتناقض كثيرا مع الواقع، وتجافى الحقيقة، ولا تتسق مع مع هذا العبء الكبير الملقى على عاتق القادة الدينيين، وتوقعات جموع المسلمين منهم. - الفجوة الواسعة بين مستوى الارتقاء الروحى والوجدانى لكثير ممن يطلق عليهم الدعاة الجدد وشباب الدعاة، وبين ما يطرحونه للناس فى وسائل الإعلام المختلفة، الأمر الذى يؤثر بالضرورة على الثقة فى العلماء بشكل عام. - معظم العلماء الحقيقيين يرغبون عن الظهور الإعلامى، ولا يميلون لتحقيق أي نوع من أنواع الشهرة، الأمر الذى ترتب عليه افتقاد الشباب للقدوة الحقيقية والنماذج الفاعلة، وترك مساحات واسعة أمام الدعاة الذين يفتقدون الكثير من المؤهلات العلمية، التى تمكنهم من أن يكونوا شركاء حقيقيين فى هذه المواجهة. يتابع، ولا شك أن دور القادة الدينيين هو الدور المحورى فى الوقت الراهن، للقضاء التام على ما يمكن أن يطلق عليه بالداعشية، ومواجهة طغيان مصطلحات التطرف، والتى فرضت واقعا أيديولوجيا جديدا، يستوجب العمل على إعادة النظر فى المقررات الدينية فى دول العالم الإسلامى. وقد قطع الأزهر شوطا كبيرا، فى عملية تطوير أسلوب المقررات التراثية فى التعليم قبل الجامعى لتواكب لغة العصر، مع الحفاظ على فهم التراث، كما فهمه علماء الأزهر القدامى، واستحداث مادة جديدة بعنوان «الثقافة الإسلامية» تُدرَّس كمُتطلَّب عام في التعليم الأزهري قبل الجامعي، تحرر تلك المفاهيم الملتبسة، والتى تطرحها جماعات التطرف وأصحاب الفكر المنحرف، كما أنه يتعين على العلماء التركيز على تلك المفاصلة الفكرية فى هذا الخطاب الذي تقدمه جماعات التطرف، وبيان تناقضه وحرفيته، وابتعاده عن الواقع، الذى يعيشه المسلمون عن طريق تعزيز تطبيق التفسيرات التى ترتكز على مقاصد الشريعة ومبادئها العامة، وهذا ما يعمل عليه مرصد الأزهر لمكافحة التطرف. وعلى العلماء العمل على تبنى إستراتيجية عمل واضحة، والتنسيق مع المؤسسات الدينية المعتمدة فى العالم الإسلامى، آخذين فى الاعتبار، أن المواجهة الحقيقية للإرهاب تستوجب تضافر جميع الجهود، وتبنى مبادرات واسعة ومؤثرة، تعتمد على الوصول إلى أكبر عدد ممكن من الشباب، وتخلق مساحات للحوار كبديل للانغلاق والعزلة، الأمر الذى يجعلهم عرضة لخطر التطرف، وخلق شراكات حقيقية للعمل معا على مجابهة هذا الخطر الذى يهدد العالم أجمع. ولا شك أن الفرصة مواتية، بعد تراجع داعش، وقرب القضاء عليها، وانحسارها على الأرض، ولدى مصر طاقات كبيرة، تتمثل فى مؤسساتها الدينية العريقة بتراثها الفريد، الذى لا يوجد له مثيل فى أي دولة من دول العالم، ذلك التراث الذى يعكس الصورة المعتدلة، والحقيقية لتعاليم الدين، يعتنقه ما يقرب من مليار وسبعمائة مليون مسلم، ولا بد أن نأخذ فى الاعتبار، أن هناك عوامل عديدة ومتنوعة ومعقدة تدفع إلى التطرف، يعتبر الدين واحدا منها، وأنه لا بد من المواجهة الشاملة والعمل على الاستفادة من قوة الثقافة الجماهيرية، جنبًا إلى جنب مع سلطة القيادات الدينية.