شاعران كبيران قدما إلى مصر، وأقاما فيها بعض الوقت، الأول هو الشاعر أبو نواس (أبو علي الحسن بن هاني 141 ه /758 م 191ه/ 806 م)، والثاني المتنبي (أبو الطيب أحمد بن حسين الجعفري الكندي 303 ه / 915 م 354 ه/ 965 م). أبو نواس جاء إلى مصر بعد أن سمع عن أمير خراجها أبو النصر الخطيب وحبه للأدب وإكرامه للشعراء، فقال في مدحه: تقولُ التي عن بيتها خفّ مرْكبي ** عزيزٌ علينا أن نَرَاكَ تَسيرُ أما دونَ مصْرٍ للغنَى مُتَطَلّبٌ؟ ** بلى إنّ أسْباب الهوى لكثيرُ فقلتُ لها: واستعجلَتْها بَوَادِرٌ ** جرتْ، فجرى في جرْيهِنّ عبيرُ: ذريني أكَثّرْ حاسديكِ برِحْلَةٍ ** إلى بلَدٍ فيه الخصيبُ أميرُ إذا لم تَزُرْ أرْضَ الخصِيبِ ركابُنا ** فأيّ فتىً، بعدَ الخصيبِ، تَزُورُ فتًى يشْتري حسْنَ الثناءِ بمالِهِ ** ويعْلَمُ أنّ الدّائِرَاتِ تَدُورُ فما جازَهُ جُودُ ، ولا حَلّ دونَه ** ولكنْ يصيرُ الجودُ حيثُ يصيرُ فلمْ تَرَ عيني سُؤدَداً مثلَ سُؤدَدٍ ** يحِلّ أبو نَصْرٍ به، ويَسِيرُ سموتَ لأهلِ الجوْرِ في حال أمنِهمْ ** فأضحو وكلٌّ في الوثاق أسِيرُ إذا قام غَنّتْهُ على السّاقِ حِليةٌ ** لها خُطوةٌ عند القيام قصيرُ وفي مصر ظهرت آثار النعمة والسعادة والرضا على أبي نواس وأعجب بالبلد كثيرا وأبدى ارتياحا للأمير (على عكس ما سنراه لدى المتنبي) وقدم جانبا من شاعريته الفذة في مصر وأميرها وقال: أنت الخصيب وهذه مصرُ ** فتدفقا فكلاكما بحرُ لا تقعدا بي عن مدى أملي ** شيئا فما لكما به عذرُ ويحقّ لي إذ صرت بينكما ** ألا يحلّ بساحتي فقرُ النيل ينعش ماؤه مصرا ** ونداك ينعش أهله الغمرُ وقد حدثت بعض القلائل في مصر أثناء إقامة أبي نواس فيها، وخرج الناس في تظاهرات وتحركات كالتي نراها في أيامنا هذه، فغضب والي مصر، وشارك أبو نواس في تهدئة الناس وأسمعهم بعض شعره ونصحه لهم قائلا: محضتكم يا أهل مصر نصيحتي ** ألا فخذوا من ناصح بنصيب ولا تثبوا وثب السفاة فتحملوا ** على حد حامي الظهر غير ركوب فان يك باق إفك فرعون فيكم ** فإن عصا موسى بكف خصيب رماكم أمير المؤمنين بحية ** أكول لحيات البلاد شروب ويقال إن ثائرة المتظاهرين قد هدأت عند التقائهم بأبي نواس وأعجبوا بسلاسة منطقه وحسن نصيحه، وتفرق الجمع في ارتقاب نظر الخصيب في شكواهم. لكن يبدو أن الخصيب لم ينظر في شكوى المتظاهرين، فعادوا إلى التظاهر مرة أخرى، وكانوا أعنف من المرة الأولى، وهنا كتب أبو نواس قائلا: دم المكارم بالفسطاط مسفوح ** والجود قد ضاع فيها وهو مطروح يا أهل مصر لقد غبتم بأجمعكم ** لما حوى قصب السيف المساميح أموالكم جمة، والبخل عارضها ** والنيل مع جوده فيه التماسيح وعندما انتهت ولاية الخصيب على خراج مصر تركها أبونواس عائدا إلى بغداد. أما المتنبي فقد جاء إلى مصر سنة 346 ه / 957 م بعد خروجه من حلب ويأسه من سيف الدولة الحمداني، وفي مصر مدح المتنبي حاكمها كافور الأخشيدي على أمل أن ينصبه على ضيعة أو ولاية، فأكرم الأخشيدي الشاعر الكبير الذي أحس بعد وقت أن الحاكم يتأبي عليه ويسوف، فأخذ المتنبي يتعالى عليه وينشده الشعر وقد انتعل خفا وتمنطق بسيف، ويقال إنه كان يركب بحاجبين من الحراس مسلحين بالسيوف، ولما عوتب كافور عن تخليه عن المتنبي وعدم تحقيق أمانيه قال: يا قوم .. أمن ادعي النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، أما يدعي المملكة مع كافور؟ وأدرك المتنبي أن كافورا لن يعطيه ما يطمع إليه، فضاق به المقام في مصر وغادرها خفية في أحد أيام عيد الأضحى من عام 350 ه / 961 م هاجيا كافورا هجاء شديدا في عدة قصائد، من أشهرها قصيدته التي يقول فيها: عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ ** بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ أمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُمُ ** فَلَيتَ دونَكَ بِيداً دونَهَا بِيدُ ويقول: أكُلّمَا اغتَالَ عَبدُ السّوْءِ سَيّدَهُ ** أوْ خَانَهُ فَلَهُ في مصرَ تَمْهِيدُ صَارَ الخَصِيّ إمَامَ الآبِقِينَ بِهَا ** فالحُرّ مُسْتَعْبَدٌ وَالعَبْدُ مَعْبُودُ نَامَتْ نَوَاطِيرُ مِصرٍ عَنْ ثَعَالِبِها ** فَقَدْ بَشِمْنَ وَما تَفنى العَنَاقيدُ لا تَشْتَرِ العَبْدَ إلاّ وَالعَصَا مَعَهُ ** إنّ العَبيدَ لأنْجَاسٌ مَنَاكِيدُ ما كُنتُ أحْسَبُني أحْيَا إلى زَمَنٍ ** يُسِيءُ بي فيهِ عَبْدٌ وَهْوَ مَحْمُودُ مَنْ عَلّمَ الأسْوَدَ المَخصِيّ مكرُمَةً ** أقَوْمُهُ البِيضُ أمْ آبَاؤهُ الصِّيدُ إلى آخر هذه القصيدة الشهيرة التي وضع فيها المتنبي كل سخطه وازدرائه وغضبه من كافور الأخشيدي. ويبدو أن المتنبي لم يكن غاضبا من كافور فحسب، ولكن خلع عضبه أيضا على المصريين جمعيا حيث يقول في قصيدته التي مطلعها: ألا كُلُّ مَاشِيَةِ الخَيْزَلَى ** فِدَى كلِّ ماشِيَةِ الهَيْذَبَى يقول: وَكم ذا بمِصْرَ مِنَ المُضْحِكاتِ ** وَلَكِنّهُ ضَحِكٌ كالبُكَا ثم يعود إلى كافور قائلا في القصيدة نفسها: وَأسْوَدُ مِشْفَرُهُ نِصْفُهُ ** يُقَالُ لَهُ أنْتَ بَدْرُ الدّجَى وَشِعْرٍ مَدَحتُ بهِ الكَرْكَدَنّ ** بَينَ القَرِيضِ وَبَينَ الرُّقَى أكثر من قرن ونصف القرن تفصل بين الشاعرين أبي نواس والمتنبي، ولكن اختلفت الدوافع وتعددت أسباب الزيارة لمصر، حيث لم ير المتنبي شيئا يستحق البقاء في أرض الكنانة، بينما عاد أبي نواس إلى بغداده بعد إقامة سعيدة وموفقة في "أم الدنيا".