بينما كان الأب منهمكًا في مطالعة بعض أوراقه وترتيبها سمع صوت نحيب. كذب أذنه لأول وهلة، ولكن سرعان ما تكررت النهنهة مفصحة عن بكاء مكتوم، استرق السمع ليحدد مصدره، فإذا به ينحدر من حجرة ابنته الجامعية. شعر بالقلق، ترك أوراقه، أسرع إلى حجرتها يستطلع في قلق بالغ سبب هذا البكاء. هل من مرض تعانيه أم من ألم تقاسيه، أم من حزن انتابها جراء خبر سيئ وصل إليها عبر هاتفها؟ دخل الحجرة فوجدها تكفكف دموعها محاولة إخفاءها، وقف مترددًا، ثم سألها: هل تبكين؟ أومأت برأسها دون أن تنطق. فسألها والقلق يدفعه دفعًا: لماذا تبكين؟ هل هناك ما يؤلمك؟ أشارت إلى شاشة التليفزيون، فنظر فوجد فيلمًا هنديًا مأساويًا. فقال لها: وماذا يبكيك في هذا؟ قالت والدموع تخنقها: إن قصته مؤثرة جدًا، وأنا لا أستطيع أن أمنع نفسي عن البكاء، ولا أملك دموعي. فتأهب الأب ليصب في أذنيها محاضرة تبدأ بأن هذا فيلم، مجرد تمثيل، ليس فيه أي شيء حقيقي ليبكيك، لا شيء في الدنيا يستحق دموعك، لا تدعي شيئًا يزعجك إلى هذا الحد. وقبل أن يبدأ في إلقاء المحاضرة، التفت إلى الشاشة وقال في نفسه: لماذا لا أتفرج أولًا وأشاهد ثم أقول لها ما أريد؛ حتى يكون كلامي مقنعًا لها، وعن شيء محدد، وليس شيئًا في العموم؟ وقف ينظر إلى المشهد، ويقرأ الترجمة العربية، انجذب إلى الموقف، جلس يتابع باهتمام، جذبته الدراما وشدة الانفعالات الهادئة العميقة في الوقت نفسه البعيدة عن الصراخ والعويل الذي كان يتوقعه. سرعان ما استولى عليه المشهد الذي لم يتغير، فقد وجده جد مؤثرًا على كل ذى إحساس، فما بالك بتلك البُنية الرقيقة المشاعر المرهفة الحس؟ فبالرغم من أنه لم يشاهد من الفيلم سوى مشهد واحد، فإنه استنتج الأحداث من خلال الحوار بين رجلين أحبا فتاة واحدة، وكل منهما كان يريدها لنفسه إلى أن ظفر أحدهما بحبها، ثم اكتشف فجأة أنه مصاب بمرض ميئوس من شفائه وأن أيامه في الحياة معدودة، فأخذ في هذا المشهد يلح على الحبيب الآخر ويتوسل إليه أن يقترب من حبيبته، ويقنعها بحبه في حين ينسحب هو من حياتها دون أن تتعلق به، لتعيش مع غريمه قصة حب ناجحة وطويلة، تسعد بها حبيبته، التي أشفق عليها إن ظلت متعلقة به، أن تصيبها آلام الفقد وحسرة الفراق فتتحول حياتها بعد موته إلى جحيم لا نهاية له قد يدفعها إلى الانتحار، فألح على غريمه هذا بمزيد من الرجاء أن يكون مفتاح السعادة لحبيبته التي لم يحب أحدًا سواها، بينما الآخر يرفض بإباء وإصرار شديدين وهو مذهول. إلى هنا وجد الأب نفسه غير قادر على إكمال المشاهدة؛ لما اعتراه من التأثر البالغ من هذا المشهد القصير الذي لم ير منه سوى دقائق قليلة فقط، فخرج وقد احتبست الكلمات في حلقه، قبل أن تغلبه دموعه أمام ابنته، وخرج ولم يفكر بعدها أن يسألها علامَ انتهى الفيلم ولا كيف كان مصير أبطاله، فلم يرد أن ينكأ جرحًا توقف عن النزف.