تقدم تجربة رئيسة البنك المركزي الروسي نموذجا يحتذى به في كيفية إدارة أزمة، فالاقتصاد الروسي يعيش أسوأ حالاته منذ فرض العقوبات الغربية عليه وهبوط أسعار النفط والغاز، ومع ذلك كان من الممكن أن يكون الوضع أسوأ كثيرا بدونها، إلفيرا نابيولينا محافظ البنك المركزي الروسي التي قدمت للبلاد الدواء المر دون الاعتبار للزوابع السياسية، وجهودها لتحقيق الاستقرار في سوق العملات المحلي في روسيا من خلال رفع معدلات الفائدة وتعزيز قيمة العملة المحلية التى بدأت تؤثر ثمارها. إلفيرا نابيولينا.. امرأة بألف رجل. منذ توليها منصب رئاسة البنك المركزي استطاعت نابيولينا أن تجنب البلاد مشاكل كثيرة، ومقارنة بين الأزمة الحالية وما شهدته البلاد خلال الأزمة المالية العالمية يمكن القول إنها تعلمت الكثير، وقد وصفتها الأيكونومست بأنها الذراع اليمني للرئيس فلاديمير بوتن. وبرغم أن اول لقاء لنابيولينا مع الرأسمالية كان في الجامعة ومن خلال دورة “نقد النظرية الاقتصادية الغربية”، وهو ما يمثل بداية غير تقليدية بالنسبة لمحافظ بنك مركزي في العصر الحديث فإنها أثبتت نجاحا يحسدها عليه كثيرون. وهذه الأيام تمثل نابيولينا تناقضا من نوع آخر، فالاقتصاد الروسي عاني سنوات طويلة في الماضي من الفساد، ومؤخرا من العقوبات الغربية وانخفاض اسعار النفط والغاز - صادرات البلاد الرئيسية- ومع ذلك فإن البنك المركزي الروسي نموذج حي علي المهنية العالية والسياسة التكنوقراطية . فقد جاءت الأزمة المالية العالمية 8002-9002 وانخفاض اسعار النفط وما ترتب عليها من دخول الاقتصاد العالمي في ازمة ركود لتكشف مدى اعتماد الاقتصاد الروسي على صناديق التحوط الأ جنبية والمستثمرين الافراد. ومع خروج تدفقات مالية ضخمة في ذلك الوقت ومحاولة البنك المركزي الروسي دعم قيمة الروبل خسرت البلاد ما قيمته 200 مليار دولار من احتياطياتها الرسمية في غضون اشهر قليلة، وجفت ينابيع الائتمان في مختلف القطاعات الاقتصادية ليتقلص الناتج المحلي الاجمالي للبلاد بنسبة 8% في عام 2009 . الوضع المتأزم هذا دفع روسيا الي القيام بمجموعة من الاصلاحات الضرورية في إطار التحوط ضد ازمة جديدة مماثلة بانخفاض اسعار النفط مرة اخرى وكان ابرزها لجوء البنك المركزي الي تنويع مصادر دخله. وفي عام 2013 عهد المنظمون الروس الي مؤسسات مالية عالمية يوروكلير وكليرستريم بمهمة الترويج للسندات الروسية في الخارج، ما ساعد في رأي محللين البلاد علي جذب المستثمرين المؤسسين الذين يميلون الي تجاهل تقلبات السوق وشراء الاصول عندما تكون اسعارها رخيصة. واعتمدت نابيولينا علي مصدر آخر للتمويل وهو السوق المحلي بإصدار المزيد من السندات، ومن ثم ارتفعت حصة الدين المحلي من 66% الي 70% في 2013، وفي تقدير بنك جولدمان ساكس ان اصول صناديق التقاعد الروسية، والخاضعة لرقابة البنك المركزي سوف ترتفع من 60 مليار دولار حاليا الي 002 مليار دولار بحلول عام02020 هذا التنوع في مصادر التمويل أدي الي تلبية احتياجات البلاد بشكل ما، ومقارنة بحجم اقتصادها فإن التدفقات الخارجة خلال الازمة الحالية في 2014-2015 كانت اقل مما كانت عليه خلال الازمة المالية العالمية في 8002-9002. والجدير بالذكر هنا ان الناتج المحلي الاجمالي قد تقلص بنسبة 4% فقط في 2015 وهو ما يعني ايضا اداء افضل في مواجهة الازمة مقارنة بعام 2008 وذلك برغم الانخفاض الحاد في اسعار النفط وايراداته بالتبعية. ومن ابرز الاصلاحات التي قامت بها نابيولينا ايضا خلال الازمة الحالية وكان لها تأثير قوي، التغير الكبير في سياسة البنك المركزي بالنسبة لاحتياطياته الاجنبية. وكان الاحتياطي الروسي ارتفع بواقع 140 مليار دولار خلال الفترة بين عامي 2009 و2013 الي اكثر من 500 مليار دولار (حوالي خمس الناتج المحلي الاجمالي للبلاد)، وذلك بفضل ارتفاع اسعار النفط. قوة الاحتياطي الاجنبي للبلاد كان سببا رئيسيا في قدرة روسيا علي انتهاج سياسة خارجية عدوانية تجاه الغرب لانها لم تكن في حاجة الي صندوق النقد الدولي كما حدث في عام 1998، الامر الذي اعطي نابيولينا كذلك فرصة للمناورة. وخلال الازمة الحالية, عندما بدأت اسعار النفط تنخفض، ومن اجل الحفاظ علي الاحتياطي الاجنبي، سارعت نابيولينا من وتيرة تنفيذ خطة للسماح بتعويم الروبل، وبالفعل انخفض بنسبة 40% مقابل الدولار في عام 2015. وبالطبع دعم الروبل كان سيرضي الروس لانه كان سيحافظ علي قوتهم الشرائية، لكنه كان سيضر بمصالح البلاد لأنه معناه خسارة الاحتياطي مرة اخري، لكن بدلا من ذلك ضخ البنك المركزي الدولارات في البنوك والشركات المتضررة من العقوبات الغربية لمساعدتها في سداد ديونها الخارجية، كما تم استخدام دولارات الاحتياطي النقدي في تمويل عجز الميزانية. ومع تعافي اسعار النفط سيعمل البنك المركزي الروسي مرة اخري علي تراكم النقد الاجنبي بهدف بلوغ مستوي ال 005 مليار دولار مرة اخري. يذكر ان انخفاض الروبل اشعل التضخم مع ارتفاع تكلفة الواردات، ومن ثم انخفضت القيمة الحقيقية للاجور باكثر من 10% منذ 2014 لا تزال ثلاثة اضعاف قيمتها عندما تولي بوتن الحكم في عام 2000. وكان رفع اسعار الفائدة هو الآلية الوحيدة التي استخدمها البنك المركزي من اجل وقف هبوط الروبل، وفي 2014 زادت الفائدة الي 71% لتفادي الانخفاض غير المنضبط في سعر صرف العملة وجعل الروبل أكثر جاذبية للمشاركين في السوق. وهكذا عمل رفع الفائدة علي كبح التضخم، الذي يبلغ حاليا 7%، لكن المستهدف خفضه الي 4%، وفي رأي خبراء البنك الدولي ان تلك القرارات تعكس قدرة المؤسسة علي القيام بما هو في صالح البلاد دون خوف من الاعتراضات السياسية. ويقول البعض إن الدواء المر كان مهما، ولتخفيف مرارته تنفق الحكومة 3% من الناتج المحلي الاجمالي علي إعادة رسملة البنوك المدارة جيدا، وتعويض اصحاب الودائع في البنوك المتعثرة، هذا بالإضافة الي السماح مؤقتا للبنوك بإعادة تقييم احتياطياتها من النقد الاجنبي بسعر الصرف قبل الازمة، ما يجعل ميزانياتها تبدو في وضع أفضل ليعزز قدرتها علي منح الائتمان لعملائها، وتم السماح للبنوك بزيادة مهلة سداد الديون المعثرة، وهي الاجراء التي لاقت ترحيبا حذرا من جانب صندوق النقد الدولي. جميع هذه الاجراءات بدأت تؤتي ثمارها، فالديون المعدومة أقل من مستوياتها في 2008-2009 وهناك انتعاشة في الائتمان، وبعدما منحها بوتن حرية التصرف لم يعد أحد فوق القانون، وتفرض رئيسة البنك المركزي رقابة مشددة علي البنوك التي كانت تتمتع من قبل بحماية خاصة ولا يتم المساس بها، وبحسب نائب سابق للبنك تم إلغاء رخصة 002 بنك منذ 4102 وهو ما يشكل خمس إجمالي البنوك في البلاد. ومع ذلك تبدو آفاق الاقتصاد الروسي علي المدي الطويل ضعيفة، وينتقد البعض السياسة النقدية المتشددة لرئيسة البنك المركزي، ويتهمونها بأنها معوقة للاستثمار، لكن أرباح الشركات ارتفعت بنسبة 50% العام الماضي مع ارتفاع قيمة ايراداتها الخارجية، وحاليا لدي الشركات سيولة ضخمة يمكن استثمارها. وبحسب استطلاعات الرأي فإن عدم استقرار السياسات هو أكبر معوق للاستثمار وليس أسعار الفائدة المرتفعة. وتتفق نابيولينا مع هذا الرأي، وتقول إن التباطؤ الاقتصادي الحالي هو نتيجة عوامل هيكلية، ومن ثم فأكثر ما يقلقها هو مدي سرعة تحسين مناخ الاستثمار وليس اسعار النفط.