فى إطار اتجاه مصر إلى تعظيم العائد من المشروعات القومية الكبرى وما يتطلبه ذلك من سياسات اقتصادية رشيدة، حرص صانعو السياسة الاقتصادية على تحقيق الإصلاح الاقتصادى الشامل من خلال إيجاد السياسات التى تكفل وضع مصر على الطريق الصحيح لتنمية اقتصادية مستدامة. وكان من أهم سياسات الإصلاح الاقتصادى تحرير سعر الصرف الذى إن كان ضروريا فى هذه المرحلة فقد أسفر عن تداعيات غاية فى الأهمية على الوضع الاقتصادى فى مصر، فمن الناحية الإيجابية ترتبت عليه زيادة تحويلات المصريين العاملين فى الخارج وكذلك الاستثمارات الأجنبية المباشرة التى تخطت 8 مليارات دولار عام 2016، كذلك وصل الاحتياطى فى البنك المركز إلى ما يقرب من 39 مليار دولار، ولأول مرة منذ عدة سنوات حدث فائض فى ميزان المدفوعات وتراجع العجز فى الميزان التجارى المصرى، كما تزايدت تدفقات النقد الأجنبى من خلال الاستثمار الأجنبى المباشر وتحسنت إيرادات السياحة، ومن هنا فإن عرض الدولار بالنسبة للجنيه المصرى قد شهد تحسنا كبيرا، وصاحب ذلك انخفاض الطلب من خلال خفض الاستيراد بنسبة مؤثرة. أما من الناحية السلبية فقد ترتب على تحرير سعر الصرف ارتفاع مستوى الأسعار على نحو غير مسبوق فى مصر حيث تخطى معدل التضخم 33% ما انعكس سلبا على مستوى معيشة المواطن المصرى، ولم يقتصر الأمر على الأثر السلبى للتحرير على المستهلكين، ولكن امتد إلى المنتجين وخاصة متوسطى وصغيرى الحجم، حيث ارتفعت تكلفة الإنتاج بشكل كبير أثر فى قدرتهم على زيادة تنافسية الإنتاج التى تعد مطلبا أساسيا للاستفادة من انخفاض سعر الجنيه فى زيادة الصادرات، وأسفر عن ذلك تعثر العديد منهم وما لذلك من آثار سلبية على الطاقات الإنتاجية المصرية، وقد زامن هذا الأثر السلبى ارتفاع تكلفة الطاقة الكهربائية والمياه وتطبيق قانون ضريبة القيمة المضافة. كذلك كان لتحرير سعر الصرف آثار سلبية على تكلفة الدعم، ما انعكس على قدرة الحكومة فى مواجهة عجز الموازنة وما لذلك من آثار سلبية على تكلفة الدعم ما انعكس على قدرة الحكومة فى مواجهة عجز الموازنة وما لذلك من آثار على الدين الداخلى والخارجى، وفى ظل تصريحات الحكومة بتوقع انخفاض التضخم بحلول العام المقبل إن شاء الله إلى 15% فإن التساؤل المطروح هو: لماذا لم ينخفض الدولار أمام الجنيه المصرى رغم تحسن مؤشرات كل من العرض من الدولار والطلب عليه؟ وأهمية هذا التساؤل ترتبط بأن ارتفاع الدولار كان مسئولا بشكل كبير عن ارتفاع التضخم وذلك وفقا لخبراء الصندوق، وإذا كانت البنوك حاليا هى المتحكمة تحت إشراف البنك المركزى فى تحديد سعر الصرف، فإن الأمر إنما يتطلب دراسة العلاقة بين كل من سعر الصرف الحقيقى والمعلن وذلك حتى يمكن تجنب الآثار السلبية لاحتمال أن يكون الجنيه المصرى مقوما بأقل من قيمته وما لذلك من تداعيات على الأداء الاقتصادى الحالى بشكل عام وعلى توزيع الدخل بشكل خاص. إن الإجابة على هذا التساؤل لها أهميتها الكبيرة فى التخطيط للمسار المستقبلى للأداء الاقتصادى المصرى، وتفسير ذلك أنه فى ظل اتجاه الدولة المصرية لتحديد المزايا النسبية للقطاعات الصناعية والزراعية والخدمية فإن سعر الصرف الحقيقى له أهمية كبيرة فى توجه المنتجين إلى الاستثمارات التى تحقق الكفاءة فى استخدام الموارد التى تستند إلى التسعير السليم لعناصر الإنتاج، ومن هنا يتم دعم الطاقات الإنتاجية فى الصناعات التى يمكن أن تتوجه للتصدير أو تلك التى يتم إحلالها محل الواردات، وللأسف فإن سياسات الدولة فى توجيه الموارد لا تتم بالشكل السليم نتيجة عدم وجود رؤية لذلك من ناحية ومن ناحية أخرى لعدم الاستفادة من البحوث العلمية فى هذا المجال. إن الاتجاه الصحيح الذى يحسن الاستفادة من آثار تحرير الصرف الإيجابية ويحاول تجنب الآثار السلبية يجب أن يعتمد على مايلى: • تبنى استراتيجية تجارية واضحة تعمل على تحديد الصناعات التى تتمتع فيها مصر بميزة نسبية وتدعيم هذه الصناعات سواء كانت كبيرة أم متوسطة أم صغيرة نحو التصدير، وكذلك دعم الصناعات التى يمكن أن تحل محل الواردات لاستكمال حلقات الإنتاج بما يدعم تنافسية القطاع الصناعى المصرى، وفى هذا الإطار لابد أن تتسق السياسة التجارية لمصر مع هذا الاتجاه، وهذا غير متحقق حاليا حيث تعتمد السياسة التجارية على تقييد الواردات بدون أساس علمى وبهدف تعظيم الإيرادات الجمركية دون الأخذ فى الاعتبار الآثار البعيدة المدى على تنافسية الإنتاج. • يجب أن يتبنى البنك المركزى المصرى سياسات ائتمان واضحة ومعلنة تهدف إلى تشجيع الجهاز المصرفى على تمويل القطاعات ذات الأولوية التى سبق الإشارة إليها، وعلينا الاستفادة من تجارب دول جنوب شرق آسيا التى نجحت فى أن يقوم الجهاز المصرفى بدوره فى دعم أهداف التنمية الاقتصادية. وفى هذا الإطار يكتسب تفعيل مبادرة الرئيس السيسى للمشروعات الصغيرة أهمية كبرى (سبق التعرض لها فى مقال سابق لها). •هناك احتياج كبير إلى التنسيق بين السياستين المالية والنقدية وذلك لتعظيم الاستفادة من أثر تحرير سعر الصرف وتجنب الآثار السلبية له، وهى مسئولية مجلس الوزراء والمجموعة الاقتصادية بالتنسيق مع البنك المركزى المصرى. والواقع أن هناك العديد من المؤشرات التى تشير إلى ضعف هذا التنسيق ما يؤثر فى استقرار الاقتصاد الكلى وما لذلك من آثار على قوة الدفع للاقتصاد المصرى، وهنا نحتاج إلى آليات متابعة من متخصصين على مستوى رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء. • لابد من التركيز فى الفترة القصيرة على الطاقات الإنتاجية العاطلة ومنها المشروعات المتعثرة والطاقات العاطلة فى شركات قطاع الأعمال العام وكذلك رفع الكفاءة الإنتاجية للقطاع غير الرسمى والذى يعد طاقة عاطلة فى الاقتصاد لعدم كفاءته، إن هذا الاهتمام من شأنه أن يضيف إلى الإنتاج فى الفترة القصيرة إذا أحسن توجيهه. إن المستقبل يحمل آفاقا إيجابية هائلة للاقتصاد المصرى بمشيئة الله، ولكن الأمر يحتاج إلى الجهد والعلم والتنسيق والمثابرة.