إن وجود الحكومة فى الدولة الحديثة، يقتضى أن يكون هناك نظام للعمل بمكاتبها ومصالحها ووزاراتها. وهذا النظام هو ما يطلق عليه اسم »البيروقراطية« ويكون بها ترتيبات لتسيير العمل يطلق عليه اسم »الروتين«، والمفروض أن هذه البيروقراطية أو الروتين فى خدمة الوطن والمواطنين. والموظفون العامون الذين يعملون فى هذه المكاتب ينبغى أن ييسروا أعمال المواطنين فى اطار من القواعد العامة التى تحقق الصالحين العام والخاص وفى بعض الدول يعمل موظفو الحكومة على تسهيل مصالح المواطنين، أما فى دول أخرى وخاصة الدول النامية.. يعملون على تحقيق مصالحهم الخاصة ضاربين عرض الحائط بالمصلحة العامة، وهذه الحالة معروفة فى مجالات عدة عندما يعمل الوكيل لمصلحته وليس لمصلحة الأصيل، والاصيل هنا هو المواطن المنتج أو المستثمر أو المستهلك أو غيره الذى يدفع الضرائب التى تمول منها الحكومة أداء مرتبات هؤلاء الموظفين، وتوفر لهم اماكن العمل ووسائل المواصلات وغيرها وهنا يكون هناك تعارض بين مصالح الوكلاء (الموظفين) والاصلاء (المواطنين والمصلحة العامة) وتتسبب هذه التعقيدات الادارية والروتينية فى تخلف الدولة وعدم تقدمها. ونحن فى مصر نعانى أشد المعاناة من البيروقراطية المعوقة فى مختلف الانشطة فاذا أراد شخص أن ينشئ شركة فعليه أن يحصل على ترخيص بذلك واذا كان سعيد الحظ فانه يحصل عليه فيما لا يقل عن ستة شهور، وبعد ذلك عليه أن يحصل على موافقات اخرى تتعلق بالطيران المدنى، وادخال المرافق من وزارة الاسكان، وموافقة وزارة البيئة على الالتزام بالمعايير البيئية، ووزارة الصحة فيما يتعلق بالشروط الصحية، ووزارة العمل على الالتزام بالقواعد العمالية وغيرها. ولا بأس من هذا مراعاة لمصلحة المواطنين وصحتهم، اذا كانت هذه الموافقات لا تستغرق وقتا ولا تفرض فيها إتاوات غير قانونية الا أن الواقع يصرخ بوجود هذه الانحرافات فى معظم المكاتب الحكومية إن لم يكن جميعها، ويكون كل شىء »ممكنا« أو »غير ممكن« اعتمادا على درجة ذكاء المتعامل، وسلوكه للقواعد التى حددتها البيروقراطية واذا أراد تسجيل عقد فيا ويله من الشهر العقارى وتعقيداته الرسمية وذلك بخلاف الاتاوات التى يفرضها بعض الموظفين لحسابهم الخاص. وكل ذلك مما يزيد من تكلفة اداء الاعمال، ويطيل الفترة الزمنية اللازمة لانهاء المعاملات وكل ذلك له ثمنه حيث إن »الوقت من ذهب« وينتهى الحال بكثير من الافراد الى صرف النظر عن الدخول فى مجال الانتاج والاكتفاء بايداع ما لديهم من أموال فى شهادات ايداع بالبنوك يحصل منها على نحو 01٪ سنويا خالية الضرائب وبدون تحمل مشكلات التصاريح والعمل والعمال والرقابة من عديد من الجهات بالاضافة الى اعباء الضرائب ومشاكلها. وكل هذه العقبات وغيرها كثير، تسهم فى خفض حجم الاستثمار، وفى هدر الوقت، وانخفاض معدل نمو الناتج المحلى الاجمالى وزيادة الواردات نظرا لانخفاض ثمنها النسبى. فضلا عن تدنى متوسط نصيب المواطن المصرى من الدخل القومى. إذن فإن الروتين المعوق فى مصر هو من أشد العقبات والمعوقات التى تحول دون تحقيقها لمعدل النمو الذى يتناسب مع ما تتمتع به من قدرات بشرية وعينية وثقافية وغيرها، وتسهم عوامل عدة فى وجود هذه البيروقراطية لسنوات طويلة بالرغم من شكوى الجميع منها وترجع اسباب الروتين الى عوامل عدة نذكر منها: أولا: تضخم حجم الحكومة: يبلغ عدد العاملين بالحكومة بمعناها العام نحو 5.6 مليون موظف ولذلك فهى مترهلة وكل موظف فيها يريد أن يبرر ما يفعله، سواء بالتوقيع على الاوراق أو ارهاب المسئول الاعلى منه بتحذيره من مغبة موافقته على طلبات المواطنين المشروعة والمفروض أن تكون الحكومة »صغيرة الحجم« وكفؤة فى اداء الاعمال، وفى ظل حجم مصر بالمقارنة بدول العالم الاخرى ينبغى ألا يزيد عدد العاملين بالحكومة على 3 ملايين موظف. ماذا أنت فاعل بهم ؟ المفروض ألا يستعاض عمن يخرج للمعاش أو يتوفاه الله مبكرا، أما الغالبية العظمى، فانها تحتاج الى تأهيل وتدريب بحيث تكتسب مهارات وخبرات فى مجالات يوجد طلب عليهم وأن يتم تحويلهم الى الاماكن الشاغرة ومن يرفض ذلك فان عليه الاستقالة حيث إن النظام المصرى الى يومنا هذا لا يتبع »التفنيش« أو انهاء العمل ضد رغبة الموظف نظرا لعدم الحاجة اليه. ثانيا: انخفاض الرواتب: ترتب على تضخم الجهاز الحكومى، عدم القدرة على زيادة المرتبات بحيث تكون ملائمة للمعيشة الكريمة للموظف وهذا الوضع يدفع الكثير من الموظفين الى قبول مبالغ مالية مقابل اداء واجبهم بل إنهم يضعون العقبات من اجل اجبار المواطن على أداء المعلوم ويكون حقه برقبته اما اذا اصبح الجهاز الحكومى صغيرا أو فعالا فيمكن تحسين احوالهم ومرتباتهم بما يدفعهم الى اداء واجبهم دون تأخير. وأذكر اننى كتبت مقالا فى نحو عام 1983 تحت عنوان »السبيل الى اصلاح الموظفين« واقترحت فيه ان يتم الاستغناء عن ثلثى عددهم ويحصل الثلث الباقى على اجمالى الامور، اى مضاعفتها ثلاثة اضعاف. ولكن الذى حدث هو مزيد من التضخم والتكدس فى الجهاز الحكومى. اما الثلثان فانهم يتحولون الى اعمال اخرى بما فيها الاعمال الحرة ويتحسن وضعهم ايضا. ويكون الوضع الجديد فيه مكسب للجميع بدون خاسر. ثالثا: القوانين واللوائح: من المعروف ان بمصر العديد من القوانين بما يشبه الترسانة وتراكمت هذه القوانين عبر ما يقرب من قرنين من الزمان، وبعض هذه القوانين يتضارب مع قوانين اخرى بما يمكن من الموافقة على طلب ورفض طلب مماثل، كما قد تتضمن اللوائح نصوصا تتعارض مع احكام القوانين تصيب متخذ القرار بالشلل وعدم تمكنه من التصرف. ويجرى حاليا تصفية القوانين وتنقيتها وقد قيل ذلك فى فترات ماضية ولم يحدث شىء كما لم يتم شىء الى الآن. رابعا: غياب المساءلة: تعاقب القوانين واللوائح الحكومية الموظف عندما يكسر القانون او يرتكب خطأ . اما اذا أعاق العمل ولم يؤده فلا عقاب عليه بل ان الثقافة فى العمل الحكومى تنص على: »تعمل كثيرا تخطئ كثيرا، تعاقب عقابا كبيرا« اما اذا »لم تعمل فلن تخطئ ومن ثم ترقى«. وهذا ما يعطى استدامة كبيرة لتأخر انجاز العمل، ونسف الروتين يقتضى معاقبة الموظف على اعاقة العمل بذات شدة الوقوع فى الخطأ وربما اشد من ذلك. خامسا: ثقافة العمل بالحكومة: تعانى مصر من »تمترس« ثقافة العمل بالحكومة ويعشق البعض العمل بها اما لانه يحصل على مرتب دون عمل شىء واما للوجاهة واما من اجل استغلال منصبه واما لغير ذلك من الاسباب وساعد على ذلك الفترة التى كانت فيها الحكومة هى مصدر الوظائف الوحيد، اما الآن فقد نما القطاع الخاص، وكذلك فتح المجال لاداء اعمال فردية سواء كانت مشروعات متناهية الصغر او صغيرة، وكذلك يستطيع الفرد من غير القطاع الحكومى التأمين على نفسه بحيث يحصل على معاش عند تعاقده، كان هو المبرر لتفضيل الشخص العمل بالحكومة . وكى يشيع اقبال الشباب على العمل الحر، وتخفيف الضغط من اجل الحصول على وظيفة يجب نشر هذه الثقافة وتقاوم الحكومة تثبيت الموظفين العاملين بعقود مؤقتة بها او التعيين الجديد بها. سادسا: دور المتعاملين: ان للمتعاملين مع الروتين دورا فى نسفه والقضاء عليه، وذلك عن طريق الامتناع عن عرض الرشاوى على الموظفين مقابل اداء واجبهم . وكذلك عن الابلاغ عن المنحرفين من اجل معاقبتهم خاصة ان الظروف الحالية بعد ثورتين تعلن الحرب على الفساد والانحراف وعلى الجميع ان يلعب دورا فى تحقيق ذلك.