يجمع اهل الرأى والعلم محليا وخارجيا على الاهمية القصوى للتعليم الجيد، ليس للاغراض الاقتصادية فقط ولكن لتقدم المجتمع فى جميع الجوانب العلمية والثقافية والسياسية والاجتماعية والانسانية. ولا يختلف احد على تدهور احوال التعليم فى مصر خلال السنوات الماضية تدهورا شديدا، وانخفضت جودته بدرجة مرعبة بحيث تخلفنا ليس فقط عن الدول المتقدمة، ولكن عن كثير من الدول التى كنا اساتذة بالنسبة لهم، واتسعت هوة التعليم فى مستواه المعروف عالميا بدرجة سحيقة. وخلال السنوات الماضية ثلث قرن او يزيد اجريت دراسات جدوى عديدة تكفى لشغل بنايات ذات طوابق متعددة، وانفقنا مليارات الجنيهات على التعليم بجميع انواعه، واقترضنا مئات الملايين من الدولارات من البنك الدولى وغيره لتمويل تحسين جودة التعليم غير انه لم ينجز الا القدر اليسير، ومازال التدهور مستمرا بالرغم من ارتفاع اصوات المنادين باصلاحه. مظاهر التدهور: وتظهر جوانب التدهور فى التعليم واضحة للعيان فى عديد من الظواهر. وقد تمت المطالبة باصلاحها منذ حين من الدهر ولكنها لم تنجز بدون ان يكون هذا انتقاصا من المحاولات السابقة او جلدا للذات ونذكر بايجاز اهم مظاهر هذا التدهور واسبابه. لا يستطيع كثير من التلاميذ بعد اتمام الشهادة الابتدائية كتابة اسمائهم ناهيك عن القدرة على القراءة والكتابة. عدم استيعاب التعليم الابتدائى الرسمى للاطفال فى هذه المرحلة، بالاضافة الى المتسربين وامية الكبار الذى اسفر عن ارتفاع نسبة الأمية فى مصر الى 30٪ وهى عار فى جبين مصر اذا ما قورنت بنسبة الامية فى دول نامية اخرى مثل فيتنام التى تبلغ فيها اقل من 5٪ اى صفر بالمعنوية الاحصائية. التعليم قائم على الحفظ والتلقين وليس على التفكير والابتكار ومن ثم انخفض عدد براءات الاختراع والقدرة على التجديد ومن ثم تحمل اقتصاد المصرى تكلفة باهظة لاستيراد المنتجات النهائية ورسوم الملكية الفكرية لكثير من المنتجات وذلك على خلاف الهند التى تنتج منتجات عديدة ببراءات اختراع هندية. عدم العناية الكافية بتدريس الرياضيات فى مراحل التعليم المختلفة ومن ثم تأخرت الاتجاهات العلمية فى المجتمع. زيادة اعداد التلاميذ فى الفصول لما يزيد على 100 تلميذ فى الابتدائى ونحو ذلك فى المرحلة الاعدادية، وهذا لا يمكن التلميذ من الاستيعاب ويتعذر على المدرس تلبية احتياجات التلاميذ او التفاعل معهم. عدم زرع قيم الجودة واتقان العمل فى نفوس تلاميذ المدارس مما ترتب عليه انخفاض الكفاءة التنافسية لكثير من المنتجات المصرية وافقدها القدرة على التصدير وجعل السوق المصرى ميدانا خصبا لبيع المنتجات الاجنبية ومن ثم زادت الواردات وهذا احد الاسباب الرئيسية للعجز المزمن الكبير فى الميزان التجارى المصرى وانخفاض حصيلة البلاد من العملات الاجنبية وتدهور قيمة الجنيه المصرى مقابل العملات الاجنبية الاخرى. ضعف الامكانات اللازمة للتعليم الجيد من مدرسين ومدارس ومكتبات ومختبرات ومنشآت تنمى قدرات الطلاب والتلاميذ سواء الفنية او الثقافية وكذلك العلمية. تحويل المعاهد الفنية الى كليات جامعية مما حرم الاقتصاد المصرى من الفنيين المهرة اللازمين للتنمية الصناعية الكفء. نقص عدد المدرسين وهيئات التدريس بالنسبة للطلاب ومن ثم ارتفاع نسبة الطلاب لكل مدرس عن النسبة الملائمة لتحقيق جودة التعليم. انصراف كثير من المدرسين عن بذل الجهد للتعليم الجاد بالمدارس لاجبار التلاميذ على الحصول على الدروس الخصوصية للقادرين منهم على الرغم من تأكيد المواثيق المصرية لمجانية التعليم على جميع المستويات. تشجيع الاقدام على التعليم الجامعى مما ادى الى زيادة عدد الطلاب بنسبة كبيرة تفوق كثيرا الزيادة فى متطلبات التعليم الجيد، وقد ترتب على ذلك زيادة عدد المتعطلين من خريجى الجامعات لسنوات ليست قليلة ووجود فائض من خريجى بعض الكليات »الحقوق والزراعة مثلا« وعجز من خريجى بعض الكليات الاخرى »التمريض، والتكنولوجيا«. تخلف مستوى التعليم الجامعى ومحتواه، وخاصة فى كثير من الكليات العملية عن المستويات العالمية. عدم تشجيع السلوكيات المنتجة والاخلاق الحميدة مما ترتب عليه كثير من الظواهر السلبية غير المواتية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وعزوف كثيرين عن العمل مما ادى الى ورود ايدى عاملة افريقية واسيوية فى الوقت الذى يعانى فيه الاقتصاد المصرى من وجود اكثر من 3.5 مليون عاطل. شجعت السياسات الحكومية التى اتبعت منذ نحو نصف قرن الاقبال الشديد على التعليم الجامعى من اجل الحصول على الشهادات لاغراض الوجاهة الاجتماعية او التأهيل للزواج او غير ذلك من الاسباب التى لا تمت بصلة للرغبة فى التعليم او الاسهام فى تقدم العلوم. وترتب على هذه الاسباب انخفاض معدل النمو الاقتصادى وتزايد معدل البطالة وارتفاع معدل التضخم وتدهور قيمة العملة »الجنيه المصرى« وانتشار الاختلالات فى سوق العمل والانتاج والاستثمار، ومن اجل هذا اصبح الاصلاح الشامل للتعليم والعناية بجودته قضيتين غاية فى الاهمية ويجب ان تستحوذا على الاهتمام الذى ينفذ الاصلاح بعد ان تأخرنا كثيرا رغم نواقيس الانذار والاصوات المحذرة منذ زمن ليس بالقصير. الإصلاح: ان الاصلاح الشامل للتعليم فى مصر يتطلب عدة امور كمبادئ عامة واجراءات محددة لكل مستوى من مستويات التعليم ونشير هنا الى ما نراه اهم العناصر علما بانها قد تردد ذكرها كثيرا وآن الآوان ان تتخذ طريقها نحو التنفيذ. الأطر العامة: 1 التوصل الى اتفاق مجتمعى لرؤية شاملة لقضية التعليم وحلولها ولما نصبو أن يكون عليه والمهام التى يقوم بها ونسعى نحو تنفيذها بغض النظر عن تغيير الوزير او من هو اعلى منه. 2 وضع خطط خمسية واخرى سنوية تكون بمثابة »برامج عمل« لتنفيذ الرؤية المتفق عليها. 3 تخصيص الامكانات اللازمة لتنفيذ الخطط فى ضوء الاولوية المالية التى يجب ان تستحوذ عليها قضية التعليم. 4 الاعتماد على الكفاءة والخبرة وليس الثقة والمحسوبية فى اختيار المسئولين عن التنفيذ مع تخويلهم السلطة اللازمة وتحميلهم المسئولية ومحاسبتهم بطريقة جادة وناجزة عن النتائج. 5 تطبيق قواعد المساءلة العامة بدون تمييز. 6 متابعة الاداء المستمر مع تطبيق قواعد الثواب والعقاب. 7 بقيت قاعدة هامة وهى »التمويل« ان اصلاح التعليم يحتاج الى موارد مالية كبيرة ولقد حملت الدولة نفسها بعبء لم تصبح قادرة على تحمله بالكفاءة المطلوبة وهذا العبء يتمثل فى موروث خاطئ لمقولة »التعلم كالماء والهواء« ومن ثم تبنت الدولة شعار »التعليم فى جميع مؤسسات الدولة بالمجان على مختلف المستويات« والحقيقة ان التعليم لم يعد مجانيا فى ظل انتشار الدروس الخصوصية. ويطالب كثير من اولياء الامور من أصحاب الدخول المحدودة ان تحصل الدولة رسوما معقولة مقابل تحسين جودة التعليم ومن ثم لا يضطرون الى الدروس الخصوصية الاعلى تكلف. وكما قلنا ان الاصلاح يحتاج الى شجاعة القرار من اجل المصلحة العامة، وما نطرحه فى قضية التمويل ما يلي: أ التعليم كالماء والهواء نعم الى نهاية مرحلة التعليم الاساسى ويكون بالمجان نظرا لما له من مكاسب على مستوى الفرد والمجتمع. ب ما بعد ذلك يكون بتكلفته مع اعفاء المتفوقين والممتازين من رسوم التعليم تشجيعا لتقدم العلوم والفنون. ان العمل على تطبيق »ديمقراطية التعليم« وخاصة الجامعى يجب الا تضحى بمستواه وجودته والدولة ليست قادرة على تنفيذ هذا الشعار فى ضوء عجز الموازنة العامة، ومن ناحية اخرى كثير من افراد المجتمع نمت قدراتهم المالية، فما اجدر ان يتحملوا تمويل التعليم او الجزء الرئيسى منه. وهذا مطبق فى الولاياتالمتحدة والصين وغيرها. واذا لم نفعل ذلك واردنا التعليم الجامعى بالمجان، ففى هذه الحالة لا تقبل الجامعات الا الاعداد المتفوقة من الطلبة التى تحتاجهم لتقدم العلوم، وننسى ديمقراطية التعليم، وليس فى هذا تمييز، إذ إن رغيف الخبز أساسى للمعيشة، ومع ذلك فان الدولة لا تقدمه بالمجان، فما بالنا بالتعليم الجامعى الذى لا يعتبر من الحاجات الاساسية للانسان، ومن ثم فان من يرغب فيه يجب ان يتحمل متطلباته الذهنية والمالية فى الوقت الذى تعانى فيه الدولة من نقص فى الموارد وازدياد فى المطالب. 8 العناية بالتدريب والتأهيل والتحديث لجميع العاملين فى مجال التعليم . التعليم الابتدائى: 1 ان التعليم الابتدائى هام جدا لتكوين الانسان اذ ان العلم فى الصغر كالنقش على الحجر ولكننا لا نهتم به بالدرجة الكافية وخاصة بمدرسيه، فنخصص له مدرسين غير مؤهلين وننتدبهم من بين الموظفين الروتينيين او ذوى التعليم المنخفض المستوى الا ان الاصلاح الجذرى للتعليم يتطلب تخصيص معلمين على اعلى درجات الكفاءة للتعليم الابتدائى وهذا ما فعلته دولة مثل كوريا الجنوبية، وحققت من خلاله الطفرة الاقتصادية المعروفة بل ادى ذلك الى اصلاح التعليم فى مستوياته الاخرى بحيث سبقت الولاياتالمتحدةالامريكية فى كفاءة الطلاب ومهاراتهم ومعارفهم ومداركهم العلمية ويجب ان توفر لتلاميذ هذه المرحلة التغذية التى تمكنهم من الاستيعاب وألا تتكدس الفصول حتى يتمكن المدرس من اكتشاف مواهب التلميذ ويخرج النوابغ من بينهم فى مختلف التخصصات. ما بعد التعليم الأساسي: يجب العناية بالتعليم الفنى وتوجيه متميزين له حتى تتوافر الكوادر الفنية المتوسطة التى يزداد الطلب عليها من اجل التنمية الصناعية وغيرها. تحجيم عدد التلاميذ الذين يقبلون فى التعليم بما يتلاءم مع متطلبات التعليم الجامعى وحاجات التوظيف بالكادر المتوسط. التعليم الجامعى والعالى: تحويل الجامعات من مؤسسات ذات اعداد غفيرة وامكانات ضعيفة الى منارات للعلم والبحث والابتكار وذلك عن طريق العناية باعضاء هيئات التدريس وحسن اعدادهم وألا يزيد عدد طلاب الجامعة على العدد المقبول عالميا وهو ما يتراوح بين 25 و 30 الف طالب وتوفير المنشآت الجامعية من مكتبات ومعامل ومبان مع تجهيزها الكترونيا والانتقال بها الى معامل تفريخ للعلم والتحديث، والانسان القادر على الاسهام فى تقدم العلوم والفنون. لقد اوجزنا فى ذكر عناصر الاصلاح ، حيث ان التفاصيل موجودة ومتوافرة فى دراسات اسهبت فى هذا المجال ونحتاج الى الالتزام السياسى بتنفيذها . إن التعليم أساسى للتقدم العلمى والإنسانى فى جميع المجتمعات ، وإذا أردنا الاصلاح الاقتصادى فعلينا ان نصلح التعليم ونرفع جودته وبدون ذلك لن نحلق بعيدا فى مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية .