فى ظل مناخ الفساد والتسيب الذى ساد مصر خلال الفترة من 1983 حتى، انتشرت عدة ظواهر سلبية اضرت بالاقتصاد المصرى ضررا بالغا ولاتزال. وبدلا من أن تتحقق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة، تراجعت مكانة مصر الاقتصادية والسياسية محليا واقليميا ودوليا، وذلك على الرغم من عدم اندلاع الحروب واهوالها التى عانت مصر منها الكثير منذ 1948 حتى 1973، ومن بين هذه الظواهر التهريب الجمركى سواء بادخال سلع محظور استيرادها، او عدم سداد الرسوم الجمركية جزئيا او كليا عن الرسوم المستحقة على السلع المهربة، ونسمع قصصا حقيقية عن صور عديدة لهذا التهريب. فعلى سبيل المثال أخذ أحد رجال الاعمال حقيبة بها نصف مليون جنيه منذ عدة سنوات، وهو فى طريقه الى الاسكندرية لسداد الرسوم المستحقة على وارداته. وقبل مغادرة القاهرة جاءته مكالمة تليفونية من مورد السلعة وكان امريكيا واخطره ان المخلص الذى يتعامل معه ليس على كفاءة عالية، واخطروه بالذهاب الى مخلص جمركى اخر ذكروا اسمه. وكانت النتيجة انه دفع نحو 50 ألف جنيه فقط شاملة الرسوم الجديدة واتعاب المخلص والاكراميات والرشاوى، وضاع على الخزانة العامة فى هذه الصفقة وحدها 450 ألف جنيه. ومن المتداول ايضا ان تهريب الملابس الجاهزة لا يتم فى شكل قطعة او قطعتين ولكن يتم بالحاوية »الكونتينر« كاملة. ومن غرائب الامور ان تسعيرة تهريب الحاوية، ارتفعت مع ارتفاع الاجور والاسعار من 150 الف جنيه الى نحو 350 الف جنيه، وكذلك فان الصواريخ النارية »والشماريخ« ممنوع استيرادها، ولكن تضرب يوميا فى جميع انحاء مصر وباعداد كبيرة جدا، فمن اين دخلت الا اذا كان قد تم تهريبها؟ وغير ذلك من الامثلة كثيرة. والاسباب التى تؤدى الى هذا التهريب عديدة من رأسها انحراف العاملين فى هذا المجال، وتواطؤ العديد منهم للتربح من وراء هذه الاعمال اللااخلاقية، وكذلك قبول اصحاب البضائع دفع الرشاوى، وربما يدفعهم لذلك قيام آخرين بتهريب البضائع ذاتها وبيعها بأسعار ارخص ومن ثم يتعذر عليهم تصريف منتجاتهم كما ان انتشار قيم الرغبة فى الثراء السريع، وعدم الالتزام بمكارم الاخلاق قد دفع البعض للتمادى فى هذا التيار. ويتم التهريب بصوره المختلفة لعدم فاعلية الرقابة او غيابها مع عدم معاقبة المتورطين بالعقوبات الرادعة والناجزة. الأضرار المترتبة على التهريب: ان انتشار التهريب بالصورة الوبائية الحالية يلحق الضرر بالاقتصاد المصرى من عدة زوايا منها: 1 كساد الصناعة الوطنية: فى ظل انخفاض اسعار المنتجات الصناعية المستوردة وخاصة من جنوب شرق اسيا - وعدم سداد الرسوم الجمركية المفروضة، اصبحت المنتجات الصناعية المصرية، باهظة الثمن، مما اصابها بالكساد وتوقفت بعض المصانع عن الانتاج، وانخفضت الطاقة المستغلة لبعض المصانع الاخرى، ناهيك عن عدم الاقبال على انشاء مصانع اخرى نظرا لعدم جدواها فى ظل انخفاض الاسعار بسبب التهريب الجمركى، ففى صناعة الملابس الجاهزة، والغزل والنسيج وهى الصناعة الرئيسية فى مصر، ألحق التهريب بها أضرارا كبيرة. ويصبح ذلك ايضا بالنسبة لصناعات اخرى كثيرة.
2 نقص إيرادات الدولة: إن ايرادات الرسوم الجمركية تشكل نسبة كبيرة من ايرادات الموازنة العامة، الا ان ما يدخل حصيلة الدولة يقل كثيرا عما ينبغى ان يكون وذلك بسبب التهريب. وهذا مصدر اخر من مصادر عجز الموازنة التى تسبب التضخم وارتفاع الاسعار.
3 عدم عدالة المعاملة بين التجار، اذ سوف يعانى التجار الشرفاء من كساد مبيعاتهم لصالح من يتهرب من اداء الرسوم الجمركية. وهذا افساد لمناخ التجارة التى تعتبر الامانة فى ادائها من متطلبات المجتمعات السليمة. 4 تدهور حالة ميزان المدفوعات وقيمة الجنيه المصرى، ان التهرب الجمركى يؤدى الى زيادة الواردات من السلع المختلفة، وهذا يسهم فى زيادة عجز الميزان التجارى الذى به عجز مزمن كبير منذ فترة طويلة وكذلك فان السلع المهربة تحتاج الى تمويل بالعملات الاجنبية، وحيث ان الجهاز المصرفى لن يمول هذا الانفاق، فسوف يلجأ مستوردو السلع المهربة الى السوق »السوداء« لتدبير احتياجاتهم ونشاهد فى الفترة الاخيرة انحرافا كبيرا بين السعرين، قد يجاوز 6٪ من السعر المعلن للعملات الاجنبية بالجهاز المصرفى. 5 الضرر بالمستهلكين، حيث ان السلع المهربة لا تخضع للرقابة الصحية، ومن ثم قد نستورد سلعا غير صالحة للاستهلاك الآدمى، او انتهى تاريخ صلاحيتها، أو تكون ضارة بالإنسان وصحته. 6 اثر العدوى: ان انتشار التهريب والاثراء الشديد لمن يعملون فى هذا الميدان ينتشر انتشار النار فى الهشيم وآثار العدوى بهذا الفساد فيمن يعمل فى المجالات الاخرى يشيع سمعة ضارة بالاقتصاد المصرى ويقلل من فرص حصوله على الاستثمارات المحلية والاجنبية. 7 الاثر على العمالة: يؤدى توسع شراء السلع المهربة الى تسرب آثار الانفاق الى اقتصادات الدول الاخرى ويحرم الاقتصاد المصرى من توليد فرص عمالة فى مجالات الصناعة وغيرها. ونحن اصلا نعانى من ارتفاع نسبة البطالة. العلاج: مهما ذكرنا من الضرر، الذى يلحق بالاقتصاد المصرى فلن نستطيع المبالغة فيه، وربما كانت الحقيقة اكبر من الخيال، ومن ثم تصبح محاربة التهريب الجمركى بصوره المتعددة، ذات أولوية عالية على طريق الاصلاح. واهم الاجراءات المطلوبة ما يلى: تكثيف مكافحة التهريب الجمركى وتفعيلها، إن احكام الرقابة على المنافذ الجمركية ضرورية، وهى ممكنة فى ظل توافر الاجهزة الالكترونية التى تستخدم فى هذا المجال، فضلا عن ان زيادة حجم العاملين بالجهاز الحكومى على 6 ملايين موظف، تمكن من تشغيل الاعداد الكافية التى تحول دون التهريب او على الاقل تخفف من حدته، وهذه المكافحة يجب الا تقتصر على المنافذ الجمركية بل تتبع اماكن تصريف هذه السلع، والقوانين الحالية تفرض التفتيش على السلع المستوردة والتثبت من اداء الرسوم الجمركية الصحيحة. الكشف عن قضايا التهريب الكبيرة مع محاسبة المتواطئين فيها مهما كانت مواقعهم. الرسمية او الاجتماعية. وعلى ان يكون العقاب رادعا وناجزا، وهو الاداة الرئيسية لتقليل الاقدام على التهريب. زيادة تفعيل مواصفات السلع والرسوم الجمركية الخاضعة لها بحيث يتعذر تكويد السلع فى بند جمركى تنخفض فيه الرسوم عما ينبغى ان يدفع. زيادة الرقابة على التجارة العابرة ارضا لمنع تسربها الى داخل البلاد والتهرب من اداء الرسوم الجمركية او ادخال سلع ممنوعة، اثناء تحركها داخل مصر. وهذا مصدر كبير للتهريب والفساد يجب مراقبته بفاعلية. ان التقدم التكنولوجى الهائل اوجد اجهزة على درجة عالية من الكفاءة فى الكشف عن محاولات التهريب، ولقد ادخل بعضها فى عمل الجمارك المصرية، ويحتاج الحد من التهريب الى مزيد من الجهود فى هذا المجال. --- ان الثورة التى اندلعت فى يناير 2011 وتلك فى يونيو 2013 قامتا اساسا ضد الظلم والفساد وعدم العدالة الاجتماعية وتحقيق العدل والنزاهة وتكافؤ الفرص وعدالة توزيع الدخول والثروة ، ولن تتحقق هذه الأهداف فى يوم وليلة. وتحتاج الى برامج فعالة مستديمة، مع عدم التراخى فى المتابعة ، ونخشى ان هناك شعورا بأنه قد تم الالتفاف على هذه الاهداف وصرف النظر عن تحقيقها ، لذا يجب تنشيط اجراءات العمل على تحقيق اهداف الثورة ، ومن بينها محاربة التهريب والفساد ، كى نختصر الطريق الى الاصلاح القويم والفعال .