المقدمات والمؤشرات والوقائع ترجح الاحتمالات بتزايد الضغوط التضخمية حدة في المرحلة المقبلة بما يتداعي عنها من مضاعفات, وكلها باهظة التكلفة منهكة للاقتصاد القومي, مرهقة للمواطنين. والتضخم ظاهرة معقدة ومركبة ومتعددة الأبعاد, تعبر عن الارتفاع المفرط في المستوي العام للاسعار لفترة زمنية طويلة نسبيا, وتعلله أغلب النظريات المعاصرة بزيادة حجم الطلب الكلي علي حجم العرض الحقيقي زيادة محسوسة ومستمرة عند مستوي معين للأسعار. ويقاس التضخم وفقا لمؤشرين هامين لكل منهما دلالته.. - أولهما المؤشر العام للتضخم ويمثله الرقم القياسي لأسعار المستهلكين, وهو ناتج حساب متوسط التغير في اسعار حزمة كبيرة من السلع والخدمات تشكل بنود الانفاق النمطية للاسرة المصرية, خلال فترة معينة. - المؤشر الثاني هو معدل التضخم الاساسيCoreInflation ويشتق من الرقم القياسي لاسعار المستهلكين مستبعدا منه بعض السلع التي تتحدد اسعارها إداريا, بالاضافة الي بعض السلع التي تتأثر بصدمات العرض المؤقتة, والتي تتصف بأنها الاكثر تقلبا. ويعد معدل التضخم الاساسي مؤشرا توضيحيا وتكميليا, وليس بديلا عن الرقم القياسي العام لأسعار المستهلكين. وتصويب النظر للاحصاءات المتاحة يبين ارتفاع المعدل السنوي للتضخم ليصل الي8.21% في فبراير2013 مقارنة ب4.66% في ديسمبر2012. وفي ذات الوقت سجل معدل التضخم الاساسي ارتفاعا بلغ7.68% مقابل4.44% في الفترتين المشار اليهما علي الترتيب. مع ملاحظة أن معدلات التضخم الراهنة هي الاعلي منذ عام2010, علي الرغم من التباطؤ في النمو الاقتصادي المحلي. والنظر في البيانات التفصيلية يوضح ارتفاع معدلات نمو الاسعار لمعظم المجموعات الرئيسية, وفي مقدمتها مجموعة الطعام والشراب خاصة الخبز والحبوب( الارز والذرة والمكرونة والدقيق), وبند اللحوم والدواجن, والخضروات. ارتفع ايضا معدل التضخم السنوي للمجموعة الفرعية( الكهرباء والغاز والوقود) ليسجل نحو34.2% في فبراير الماضي, كما ارتفعت أسعار مجموعة الأثاث والتجهيزات والمعدات المنزلية والصيانة. ومن العوامل التي يمكن ان يشار اليها لتفسير سبب تفاقم ظاهرة التضخم تراجع قيمة الجنيه المصري مقابل العملات الاخري خلال الشهور القليلة الماضية, وما تمخض عنه ذلك من زيادة التكلفة الاستيرادية للسلع والخدمات سواء كانت استهلاكية أو من مستلزمات الانتاج. واذا أخذنا في الاعتبار ان نسبة الواردات الي الناتج المحلي الاجمالي في مصر تناهز50%, أدركنا مدي تأثير ارتفاع أعباء المستوردات علي التضخم المحلي, كأحد الروافد الرئيسية التي تغذيه. أضف الي ذلك ارتفاع اسعار الطاقة وتأثيره علي تكلفة النقل من ناحية, وتكلفة الانتاج في الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة كالحديد والصلب والاسمنت والاسمدة من ناحية أخري, وانعكاس ذلك علي تكلفة عمليات التشييد والبناء, و تكلفة الانتاج الزراعي أيضا. هناك أيضا تضخم مكبوت أو كامن بفعل الدعم الذي تقدمه الدولة للمحافظة علي أسعار بعض السلع الاساسية, وبالذات الوقود, وبالتالي فإن تحرير هذه الاسعار المدعومة يمكن أن تطلق الاسعار من عقالها, بل تؤثر في حركة أسعار باقي السلع والخدمات, وهكذا يغذي التضخم بعضه بعضا. هذا كله, ناهيك عما يعتور الاقتصاد المصري من اختلالات هيكلية تتمثل أساسا في الآتي: - الاختلال بين معدلات وأنماط نمو القطاعات الانتاجية من ناحية, ومعدلات وأنماط نمو الطلب الاستهلاكي من ناحية أخري, وبالتالي الاختلال بين التكوين السلعي للعرض والطلب. - الاختلال بين معدلات نمو الانتاجية ومستويات الاجور في القطاعات الاقتصادية بدرجات مختلفة. - تسارع معدلات نمو السيولة المحلية لتتجاوز11.2% في نهاية شهر نوفمبر2012 مقارنة بارتفاع قدره11% في نهاية أكتوبر2012, و7.1% في نهاية نوفمبر2011, وهذا لم يكن متناسبا مع معدل نمو الناتج المحلي الاجمالي, وهو ما يدفع بالمستوي العام للاسعار الي أعلي. - طبيعة السوق, فالسوق ذو الطبيعة الاحتكارية يدفع في اتجاه زيادة حدة التضخم- الاختناقات في قنوات توزيع السلع بالاسواق المحلية, وعدم مرونة آليات العرض تؤدي الي زيادة المخاطر المحيطة بالتضخم. إن عدم السيطرة علي توقعات التضخم, وتوقي خطره سيؤدي لعواقب وخيمة للاقتصاد الكلي فالارتفاع المطرد في الاسعار يعني عجز النقود عن اداء وظائفها سواء كمقياس للقيمة او كأداة لاختزان القيمة نظرا لتقلص قوتها الشرائية, الامر الذي يترتب عليه ضعف تنافسية الاقتصاد القومي, و كبح الاستثمار, ناهيك عن أضراره بأصحاب الدخول الثابتة والمحدودة الذين تتدهور مستوياتهم المعيشية, مما يهدد باتساع حجم الفقر والفقراء. أيا ماكان الامر, فما زالت معدلات التضخم في مصر رغم ارتفاعها عند مستويات يمكن معالجتها, وكبح جماحها. وبالرغم من اختلاف اساليب العلاج تبعا لطبيعة كل حالة واسبابها ودواعيها, الا أنه يوصي دائما بالتنسيق بين السياستين المالية والنقدية للوصول الي مستوي مناسب ومستقر للأسعار, الي جانب التوسع الاستثماري في الاقتصاد الحقيقي. [email protected]