عمار علي حسن أُجهد ذهني كي أتذكره جيدًا، لكنه يروغ مني، ويتناثر على طول الأيام وعرضها، ثم يذوب كأنه لم يكن. حين أفشل في لملمة شظاياه أتظارهر بأنني قد طردته من رأسي إلى غير رجعة، لكني أضبط نفسي منتظرا أن يأتيني فجأة كاملًا، وهو ما يجري بالفعل، لكن بغتة، فتنفح نوافذ الدهشة والغربة. أراني ذلك الولد الصغير الذي يجلس فوق جسده المصنوع من خشب متين، ناظرا تارة إلى قواطعه الحديدية وهي تمزق أعواد الفول والقمح والشعير، وتذر وغلة تائهة وسط القش والتبن، وتارة أخرى إلى البقرتين اللتين تجرانه على مهل، وهو يمضي فوق سماط المحصول المفروش على أرض ممهدة صلدة، أعددناها خصيصا له. أسمع صوت جدي وهو ينهر البقرتين حتى تتمهلا، ويميل بجنبه ليعيد كل ما ينبو من المحصول إلى مكانه. تبرق عيناه بالفرح حين يرى حبات الفول أو القمح تتقافز، ثم تحط مكانها مستدفئة بالقش الغزير. تسخن قواطعه، أو تتعب البقرتان، أو يتداعى جدي من الكد، فيأمر بفترة قصيرة من الراحة، ويقول لي: انزل. أجرى نحو شجرة النبق لعل الريح تكون قد أهدتني بعض عطائها الحلو. أسند ظهري إلى جذعها الممشوق، وأراقب النورج، وهو خامد مكانه يتثاءب، ويجرح نور الشمس العفية فيشرق اللمعان، وينكسر على خطمي البقرتين، وهما تدسانهما في كومة من النجيل الأخضر، ثم ترفعانهما في وجه الخلاء. تهل جدتي متمهلة في عرج الطريق، وفوق رأسها صرة الطعام. أسمع صوتها يقول قبل أن تهبط إلى الحقل: كثر الله الخير. يرد جدي، وهو يمسح عرقه الساخن بالمنديل الأصفر، الذي يغطي رأسه، ويتدلى على كتفيه: خير كثير، والحمد لله. نأكل ونشرب الشاي، وننهض إلى البقرتين، فنعلقهما في طرف النورج بحبل متين، لتبدأ من جديد دورة أخرى من الدهس والهرس، نسمع فيها طقطقة الأعواد اليابسة الحبلى بالغلة. يقول لي جدي في حزم: اسحب البقرتين. يجري هو نحو المذراة، ويضرب شوكها الخشبي السميك في السماط الطويل ليقلبه. يتهاوى المحصول المهروس إلى أسفل، وتطل الأعواد السليمة، منتظرة دورها في الهرس. حين تترنح الشمس عند سيقان النخيل مانحة لها حمرة الخجل، يفك مقود البقرتين، ويقول: جاء الليل، فلنسترح. في اليوم التالي نكمل ما بدأناه، هو وأنا والبقرتان والنورج، الذي يمضي ذهابا وجيئة حتى يصير القش ناعما تماما، فيمسك جدي المذراة من جديد، ويهيل جنبات السماط حتى يتكوم في جرن هائل، ثم يرمي جسده عليه، ويمد كفيه لتثبتانه في وجه الريح. وحين يطمئن تمامًا إلى استوائه، يقول: رزقنا نائم بين القش. تهز جدتي رأسها، وتقول: رزقك في بطنك. تجلس إلى يمين الجرن، وتفرد كفها، ثم تطبق أصابعها، وتتمتم بكلمات لا أسمعها. حين تفرغ مما تفعل تقول: إن شاء الله تكون العطية أكثر من الديون. وما علينا ليس سوى أثمان ما أكلناه وشربناه ولبسناه طول العام، يضاف إليه ما أخذته الأرض من سماد وعزق وري وتقليب وحراسة. راح جدي وجدتي إلى حيث يذهب كل الناس في نهاية الرحلة الطويلة. في زمان أبي جاءوا إلينا بجرارات تخيفنا زمجرتها القوية. نتطلع إلى عجلاتها الضخمة القوية وهي تقف على رأس الحقل، ممدودة بسيور من جلد متين إلى ماكينة تخفي أسنانها الحادة التي تلقي إليها ربط القمح والفول فتهرسها في ثوان، وتلفظها من فم عريض في أسفلها، فنسحبها لنصنع جرنًا هائلًا في ساعة من نهار. الغلة إلى اليمين، والتبن إلى اليسار، ونحن في المنتصف شاردون يجرفنا الحنين إلى بقرتين تجران أريكة خشنة كنا نركبها في سرور، متطلعين إلى أرزاقنا النائمة تحتنا في سلام.