لأننا عشنا عقودا طويلة فى مجتمع مغلق، بمعنى أنه مجتمع يفتقد أجواء المنافسة الشريفة وتكافؤ الفرص والاحتكام لأصحاب الكفاءة والخبرة، لا أصحاب الثقة فى تولى المناصب العامة ذات التأثير فى مختلف مجالات الحياة، فقد انتشر مصطلح «الشلة» كإحدى آليات إدارة الحكم وصناعة القرار، ويقصد به تلك المجموعة قليلة العدد اللصيقة بصاحب القرار نتيجة ارتباطات شخصية محضة كالزمالة فى الدراسة أو العمل أو النادى، أو الشراكة فى مشروع ما أو القرابة الاجتماعية أو الانحياز الطبقى السافر.. وكان ذلك من علامات التخلف الصارخة المناهضة للتحديث والحياة المدنية الصحيحة، حيث الاحتكام فقط للقانون والمساواة بين الجميع و الكفاءة على مستوى القدرات المؤهلة لقيادة العمل الوطنى. وحيث تعطلت كثيرا أسباب التحول من التخلف إلى النهضة أو التحديث، ومن أبرزها تفعيل الديمقراطية قولا وفعلا، فقد جرت العادة على اللجوء إلى آلية «الشلة» كأداة فى يد صانع القرار لإدارة العمل الوطنى فى هذا المجال أو ذاك. وظل مقياس النجاح أو الفشل منوطا بنوعية هذه الشلة، إذا حسنت تحقق قدر من النجاح، وإذا فسدت كان الفشل. وكثيرا ما سمعنا وأدركنا أن «الشلة» هى الآلية الحقيقية لإدارة الحكم فى فترات زمنية مختلفة خلال عصور كل من عبدالناصر والسادات ومبارك، بما رسخ الانطباع بأنها قدر مكتوب على هذه الأمة طالما هى غير جاهزة للحياة الديمقراطية السليمة. ولا يخفى أن البلاد شهدت إنجازات وفق هذه الآلية، وكان القول الشائع فى كل مرة إنه ما كان لهذه الإنجازات أن تتحقق إلا بوجود الشلة المرتبطة بتحقيقها، بما أشاع تصوراً مؤداه أن آلية الشلة فى حد ذاتها ليست عيبا أو انحرافا عن متطلبات تحقيق النهضة، فالأمر يتوقف على نوعية أعضائها وقوة تلاحمهم مع القيادة فى العمل على إنجاح أهداف هذه المرحلة أو تلك من مراحل العمل الوطنى. وكان هذا واضحا إلى حد كبير فى أداء مؤسستين بالغتى الأهمية، هما مؤسسة الرئاسة والحكومة أو السلطة التنفيذية (مجلس الوزراء). ففيما يتعلق بمؤسسة الرئاسة عرفنا ما يسمى بمراكز القوى، حيث اعتمد عبدالناصر على شلة بعينها من المقربين إليه، وثق فيهم لأسباب مختلفة شخصية فى مجملها وليست موضوعية، منها مجموعة عبدالحكيم عامر فى وقت من الأوقات، ومجموعة على صبرى فى وقت آخر، ومجموعة عثمان أحمد عثمان فى عصر السادات، ومجموعة صفوت الشريف وزكريا عزمى فى عصر مبارك. وكانت مهمة هؤلاء ضمان السيطرة السياسية والأمنية للرئيس على مقاليد الأمور فى البلاد. وفيما يتعلق بمؤسسة مجلس الوزراء فكثيرا ما كان رئيس الوزراء فى أى عصر من العصور الثلاثة يأتى بأصدقائه ومعارفه إلى تشكيل الوزارة فى القطاعات غير السيادية بالطبع. وكانت مهمة هؤلاء هى تنفيذ سياسات بعينها تسعى إلى تحقيق الاستقرار الاجتماعى والتقدم الاقتصادى، أو بالأحرى حسن إدارة دولاب الحكم فى البلاد. ومع أن الرؤساء الثلاثة استعانوا بشخصيات مهمة، وعلى درجة عالية من الكفاء فى شئون السلطة التنفيذية، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، القيسونى فى عصر عبدالناصر، وممدوح سالم وفؤاد محيى الدين فى عصر السادات، وعاطف صدقى فى عصر مبارك، فإن هؤلاء اعتمدوا نفس الآلية، أى تشكيل حكومات من شخصيات يصدق عليها وصف «الشلة»، وتجلت مهارة أى منهم فى ضم عناصر تتسم بقدر من الكفاءة وفى نفس الوقت ينطبق عليها معيار الشلة وفلسفتها، أى توافر الثقة. إلا أن التجربة التاريخية أكدت بكل وضوح أنه برغم ما يمكن أن يطلق من تبريرات للاعتماد على هذه الآلية، وأوجه الدفاع عن صحتها لإدارة شئون الحكم، فإن أخطاءها وسلبياتها كانت شديدة الوضوح أيضا، وقاد الاعتماد عليها إلى كوارث سياسية لا يمكن إنكارها، كما تقول لنا التجربة التاريخية بوضوح: إن العصور الثلاثة شهدت تحركات مضادة من قمة الحكم للسيطرة على الشلة وتصحيح مسارها، لكنها كلها أيضا لم تكن موفقة، فكانت النتيجة العامة هى، أن الحكم أصبح ساحة للصراع فى أعلاه وفاقدا للشرعية فى قواعده. لقد قادت مجموعة عبدالحكيم عامر البلاد إلى هزيمة 1967، فأطاح بها عبدالناصر وجاء بمجموعة جديدة لم يسترح لها السادات فيما بعد وأطاح بها أيضا. واستشعر عبدالناصر القلق من مراكز القوى السياسية التى أحاطت به خلال الستينيات، فأقام التنظيم الطليعى (تنظيم سرى) لكبح جماح هذه القوى، وبدوره أصبح هذا التنظيم عبئا على النظام، واضطر السادات إلى الثورة عليه فيما يعرف بثورة 15 مايو 1971. وأدرك مبارك فى بداية عصره خطر الشلة ومراكز القوى فسعى إلى تخليص قمة الحكم منها بأن يكون هو وحدة صاحب القرار، ولكن طول استمراره فى الحكم وترهل حكمه فتحا الباب واسعا أمام أسوأ أنواع الشلل التى عرفها النظام السياسى المصرى، أدارها بخبث شديد كل من صفوت الشريف وزكريا عزمى، ومن التف حول كل منهما، إلى أن أنشأ جمال مبارك شلته منذ عام 2002، تحت ما يسمى بالفكر الجديد، فكانت هذه الشلة الوباء الذى أتى على مبارك وعصره تماما.. ولأن السمكة تفسد من رأسها، فإن الوطن المصرى فسد بدوره نتيجة سيطرة مفهوم الشلة على الحكم والصراع الذى دب بين تكويناتها وأعضائها المختلفين، فمن المنطقى أن تفسد الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، طالما أن رأس الحكم أصبح فاسدا نتيجة اعتمادها لهذه الآلية لإدارة العمل الوطنى، ودلالة ذلك أن «الشلة» لم تعد محصورة (قبل ثورة 25 يناير) فى أهل الحكم بل امتدت لتنتشر فى أوساط العمل الوطنى الأخرى، حيث وجدناها فى النوادى والجمعيات والأحزاب والجهاز الإدارى للدولة، وصولا إلى الإعلام مقروءا كان أم مسموعا. ومن المنطقى أن يتصارع المواطنون مع بعضهم بعضا فى أى قطاع من هذه القطاعات طالما أن المبدأ السائد هو «حكم الشلة»، فمثلما هناك من يلتفون حول القيادة أيا يكن مستواها لتحقيق مصالحهم الذاتية، هناك آخرون يتوعدونهم بالانتقام ويبحثون عن كل الوسائل لاحتلال نفس المواقع، فإما تنحصر المواجهة بين الجميع ضد الجميع فى الشكل الصريح والسافر للصراع، أو تستتر وتصبح مقاومة سلبية وهى السمة التى كانت غالبة إلى حد كبير على العلاقة بين القوى المتنافسة فى المجتمع فى أى مجال من مجالات العمل الوطنى خصوصا فى ظل الخوف من بطش الأجهزة الأمنية والسياسية الحاكمة. وفى ظل هذه الحالة لا ينتظر خير من المجتمع ككل، بل الانقسام والصراع والتشتت والسلبية فتكون النتيجة هى المزيد من التخلف والعودة إلى الوراء وهو ما حدث عمليا طوال السنوات العشر تقريبا التى اتضح فيها بجلاء فساد رأس الحكم. وكان من المنتظر أن تؤدى ثورة 25 يناير إلى وضع نهاية لهذا الوباء المسمى بالشلة لكنها لم تتمكن تماما من هذا الهدف نظرا لحداثة العهد بها واحتياجها إلى وقت طويل لتغيير بنية النظام السياسى بأكملها، أو لشدة تعقيد هذه الظاهرة وتجذرها فى المجتمع والحاجة إلى ثورة ثقافية تطهر العقول والنفوس منها، وتلك مهمة تالية للثورة تأتى بعد أولوياتها السياسية المباشرة. وبرغم ذلك فإن الشواهد تؤكد أن البلاد لن تعود إلى الوراء، حيث هناك تأكيدات من مختلف القوى السياسية بعد الثورة على ترسيخ مفهوم دولة المؤسسات من أعلى قمة هرم السلطة إلى القاعدة، والأهم هناك وعى شعبى قوى يتصاعد يوما بعد الآخر بالعمل على القطيعة التامة مع ميراث الماضى الفاسد الذى من أبرز معالمه الشلة أو بطانة السوء.