أ ش أ نجيب محفوظ الذي قضي يوم الثلاثين من أغسطس/آب ووري ثرى مصر يوم الحادي والثلاثين من أغسطس/آب عام 2006 هو النموذج المكتمل للمثقف الوطني المصري بلا ادعاءات أو مزايدات، وهو على وجه اليقين أكبر من مجرد أديب كبير فاز بجائزة نوبل على أهمية الجائزة التي يتقاتل الكثير من مشاهير الكتابة في العالم لاقتناصها. ولعل نجيب محفوظ يقدم الإجابة لكل من يريد أن يعيش مرفوع الرأس وبكبرياء الثقة في الذات والتواضع معا دون اصطناع او افتعال وإنما بسلاسة القدرة المصرية الفذة على "التعاشق" والجمع ما بين الشاعرية والواقعية في سبيكة إنسانية ثرية بكل ما ينفع الناس ويمكث في الأرض الطيبة. وفي الذكرى العاشرة لمواراته ثرى مصر التي عشقها فان الحديث عن هذا "النوبلي المصري العظيم" لابد وأن يكون بالحضور وليس بالغياب..فهذا "النجيب المحفوظ" بحجمه وقيمته وقامته ومنجزه الابداعي الشاهق لا يزيده الموت إلا توهجا في ذاكرة الثقافية المصرية ولن يزيده الغياب سوى المزيد من الحضور في وعي أجيال تلو أجيال من المصريين وضمير بلاده ووجدان امته . من الذي خط ملامح الشخصية المصرية في الرواية ورسم تفاصيلها المدهشة وظلالها الدالة بكل عبقرية الكاتب وحساسية المبدع وطاقته المذهلة على المغامرة البناءة والتجاوز والتخطي غير قلم نجيب محفوظ ومن يجلس حتى الآن في صدر موكب المبدعين من المحيط إلى الخليج غير نجيب محفوظ؟!..ومن حمل بين أضلاعه حبا وتعاطفا مع الإنسان في كل مكان اكثر من نجيب محفوظ؟! وهو صاحب اللغة المشغولة بهموم الأرض والإنسان والمعجونة بطمي النيل وتراب الوطن الذي كان لا يطيق فراقه وكاتب الكلمة التي هي ثمرة طرحتها شجرة الأرض المصرية الطيبة ومراتع الطفولة والصبا وأطايب وقطوف الذاكرة فيما يبقى مفهومه للزمن موضع دراسات عميقة لكتاب ونقاد كبار مثل الدكتورة لطيفة الزيات . ثم انه عكف بصبر على مساءلة الذات المصرية من اجل البناء لا الهدم ومن اجل الغد لا الأمس ومن منطلق انحيازه الأكبر للصابرين والكادحين في ارض الكنانة ودعوته "للثورة الأخلاقية" وأهمية التصالح مع العصر دون أن يعني ذلك التخلى عن الجذور والأصول. ورغم ذلك تعرض نجيب محفوظ في شهر أكتوبر/تشرين الأول عام 1994 لمحاولة اغتيال نفذتها يد آثمة لشخص جاهل من خصوم العقل والحرية والتقدم كما تعرض هذا المصري النوبلي في مسيرته الابداعية لكثير من العنف اللفظي من جانب القوى الظلامية التي لم تنجح أبدا في تغيير قناعته بأن الحرية مفتاح التقدم. وفي احتدامات الجدل التي تندلع من حين لآخر حول الهوية المصرية أو يشعلها البعض لأغراض ومآرب سياسية وأطماع سلطوية يمكن للباحث عن الحقيقة أن يجد الإجابة عند نجيب محفوظ وفي رواياته وقصصه التي تقول ببساطة وعمق معا ان هوية مصر هي "مصر" ذاتها اقدم دولة في تاريخ الإنسانية وهي طبقات حضارية بعضها فوق بعض في تفاعل خلاق ومن ثم فإن أي محاولة لتفكيك الهوية المصرية أو اختزالها في مستوى أو لون واحد محكوم عليها بالفشل. وإذا كانت مراكز الأبحاث في الغرب تسعى دوما "لفك شفرة الجينات الحضارية المصرية" واستكشاف وفهم ما يمكن وصفه "بالمياه الجوفية لهذا المصري الذي أقام صرح حضارة إنسانية ملهمة منذ آلاف الأعوام" فان تلك المراكز تعلم بحق ان الأدب خير معبر عن الهوية. ومن هنا أيضا يعود بعض الباحثين فى الغرب إلى عيون الأدب المصرى والأقلام المعبرة عن وجدان مصر وضمير شعبها فيما يبقى نجيب محفوظ في بؤرة اهتمامات هؤلاء الباحثين وهو الذي انشغل دوما بفكرة الإنسان الباحث عن العدالة على الأرض . ونجيب محفوظ بقدر ما يعبر في كتاباته الابداعية عن هوية مصر بقدر ما يجسد مقولة إن هوية المجتمع هي خلاصة عبقريته وذكائه الجمعي المستقى من سماته النفسية وتاريخه وقيمه وعقيدته وتصوراته وتجربته الحياتية بكل ما تنطوي عليه من قدرة على الاستيعاب والاستبعاد وإمكانية في التواصل مع التجارب الأخرى والتفاعل معها بمختلف الصور والأشكال. وفي هذا السياق يصح كذلك قول الشاعر احمد عبد المعطي حجازي بأن معرفة نجيب محفوظ شرط ضروري لابد منه لمن أراد أن يعرف القاهرة معرفة افضل مضيفا أن "المعرفة الأفضل" هنا "سر أو مزاج خاص ربما كان عصيا على التعريف" كالسؤال عن الروح. ومن هنا لا عجب أن تحتل إبداعات نجيب محفوظ حتى اليوم رأس قائمة الروايات التي ترشحها الصحافة الغربية لقرائها عن مصر والمصريين وعاصمتهم الخالدة القاهرة فيما تتوالى أعماله المترجمة للانجليزية مثل روايته القصيرة "الباقي من الزمن ساعة" وقد انجز هذه الترجمة روجر آلان أستاذ الأدب العربي بجامعة بنسلفانيا الأمريكية والذي سبق وان ترجم "لنجيب الرواية المصرية" المرايا والكرنك والسمان والخريف وخان الخليلي. ان تكون قاهريا كما كان نجيب محفوظ الذي ولد يوم الحادي عشر من ديسمبر عام 1911 في قلب قاهرة المعز بالقرب من قصر الشوق وبين القصرين "نسب لا يعبر عن نفسه بإشارة أو لهجة أو زي أو علامة خاصة وإنما يعبر عن نفسه بالشخصية كلها, باللمحة والقافية والبديهة السريعة واللفتة الذكية والضحكة الطروب التي ينفعل بها الجسد فكأنما يرقص على إيقاع نراه وان كنا لا نسمعه أو نسمعه بأبصارنا" كما يقول بعض النقاد. ولعل معنى الانفتاح الثقافي لجيل نجيب محفوظ يتبدى في قوله :"نحن في جيلنا نشأنا وقرأنا في كل الآداب سواء بالعربية او بالانجليزية..قرأنا كل الألوان والأشكال التي لا تخطر ببال..قرأنا في محاولة لإيجاد صيغة جديدة تستوعب الأفكار التي تسيطر على العالم كله". وأوضح محفوظ المعنى الحقيقي والإيجابي للعولمة قبل سنوات من ظهور وانتشار هذا المصطلح بظلاله السياسية غير البريئة عندما قال :"العالم كله وحدة واحدة والظروف تتشابه الى حد كبير..غيرنا عثروا على شكل أو أشكال تعبر عن قضايا العصر وقد تأثرنا بهم لأن أفكارنا مستمدة من نفس هذا العصر مع اختلاف محدود". ورأت الكاتبة والناقدة الراحلة الدكتورة لطيفة الزيات ان للفيلسوف الألماني الشهير هيجل بأفكاره ومنظوره تأثيره الواضح كمصدر فلسفي تأثر به نجيب محفوظ في رؤيته لوحدة الكون ولمنظور الشخصية الروائية في عالمه الروائي و القصصي الرحيب. ويتجلى معنى إلهامه للأجيال اللاحقة من الروائيين فيما قاله الكاتب الراحل صالح مرسي والشهير بإبداعاته في دنيا البحر والصيادين وعالم الجاسوسية وخاصة رائعته "الصعود الى الهاوية" أن رواية "بداية ونهاية" لنجيب محفوظ كانت وراء تركه العمل بالبحر واشتغاله بالكتابة. وكذلك قال الأديب الراحل سليمان فياض مسترجعا بدايات تجربته المديدة في عالم القصة "ما كان يشغلني هو تعلم الأدب القصصي الواقعي والذي وقفت على ضروبه من أساتذتي نجيب محفوظ ويحيي حقي ويوسف ادريس وقد حرصت على قراءة أعمالهم كاملة على مدار عشر سنوات وتلك المدة هي التي أهلتني لكتابة أول رواية على الطريق الجديد للأدب الواقعي وهي رواية امرأة وحيدة". في الذكرى العاشرة لمواراته ثرى مصر تحية تتجدد دوما كصيرورة الإبداع لسيد الإبداع المصري والعربي..عشر سنوات مضت على رحيل نجيب محفوظ لكن سيد الكلمات يبقى متوجا بالنور في قلوبنا بقدر ما بدد عتمة الأغوار..أيها "النجيب المحفوظ" : هذه إشاراتك محفوظة على جبين الوطن الذي أحببته واحبك وهذه حروفك أمست قبسا من روح مصر الخالدة.