عبد الرحيم رجب "اللهم! إن كنت أعطيت أحدًا من المحبين لك ما سكَّنت به قلوبهم قبل لقائك فأعطني كذلك! فقد أضر بي القلق"، فرأيتُ ربّ العزة في المنام، فأوقفني بين يديه، وقال لي:"يا إبرهيم! أما استحييت منى! تسألني أن أعطيك ما يسكنُ به قلبك قبل لقائى؟ وهل يسكن قلب المشتاق إلى غير حبيبه؟ أم هل يستريح المحبّ إلى غير من اشتاق إليه؟"، فقلتُ: "يا ربّ! تُهتُ في حبّك، فلم أدر ما أقول!". إنه المحب إبراهيم بن أدهم، أبو إسحاق البلخي، ومعه نبدأ رحلة الحب مع المحبين ننتهل من رحيقهم، منتشين من عبير أقوالهم وعظيم أفعالهم، كان رحمه الله من أبناء الملوك والمياسير، ترك الدنيا خلف ظهره وسلك طريق ربّه مع أهل الزُّهد والورع، كان كثير التفكر، ولا ينطق إلا قليلًا، أبعد ما يكون عن حُبِّ الدنيا وما فيها من مالٍ وجاهٍ وشهرة، أحرص الناس على الجهاد في سبيل الله وأسرعهم إليه، لا يكله ولا يفتر عنه، أعرض عن مُلك أبيه وثروته الواسعة، وعما كان يصيبه من غنائم الحرب، وآثر العيش من كسب يده، فهو الزاهد العابد العامل المتقن.
مشاهد من حياته وكان إبراهيم بن أدهم من أشد الناس يقينًا بربِّه ومواساة لعباده، فعن ذلك يقول "ابن بشار": "كنتُ ذات ليلة معه، وليس معنا شيء نُفطر عليه، ولا لنا حيلة، فرآني مغمومًا، فقال:"يا ابن بشار! بماذا أنعم الله تعالى على الفقراء والمساكين، من النعم والراحة دنيا وأُخرَى! لا يسألهم يوم القيامة عن حجٍّ ولا زكاة، ولا صلة رحم ولا مُواساة؛ وإنما يسأل ويحاسب هؤلاء المساكين، أغنياء في الدنيا، فقراء في الآخرة، أعزة في الدنيا، أذلة يوم القيامة، لا تغتم! فرزق الله مضمون سيأتيك! نحن والله الملوك والأغنياء، قد تعجّلنا الراحة في الدنيا، لا نُبالي على أي حالٍ أصبحنا، أو أمسينا إذا أطعنا الله!"، ثم قام إلى الصلاة، وقمتُ إلى صلاتي، فما لبثنا غير ساعة، وإذا نحن برجلٍ قد جاء بثمانية أرغفة وتمرٍ كثير؛ فوضعه بين أيدينا، وقال:"كلوا! رحمكم الله!"، فسلّم إبراهيم من صلاته، وقال: "كُل يا مغموم!" فدخل سائل، وقال: "أطعموني شيئاً!"، فأطعمه ثلاثة أرغفة مع تمرٍ كثير، وأعطاني ثلاثة، وأكل رغيفين، وقال: "المواساة من أخلاق المؤمنين".
روشتة علاج لعدم استجابة الدعاء وطاف ابن أدهم يومًا في شوارع البصرة، فاجتمع الناس إليه، فقالوا:"ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟!، والله تعالى يقول: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم)، فقال: يا أهل البصرة قد ماتت قلوبكم بعشرة أشياء:"عرفتم الله ولم تؤدوا حقه، وقرأتم القرآن ولم تعملوا به، وادعيتم حبّ الرسول صلى الله عليه وسلم وتركتم سنته، وادعيتم عداوة الشيطان وأطعتموه، وادعيتم دخول الجنة ولم تعملوا لها، وادعيتم النجاة من النار ورميتم فيها أنفسكم، وقلتم الموت حق ولم تستعدوا له، واشتغلتم بعيوب الناس ولم تنشغلوا بعيوبكم، ودفنتم الأموات ولم تعتبروا، وأكلتم نعمة الله ولم تشكروه عليها". وكان يردد ويقول:"ما لنا نشكو فقرنا إلى مثلنا ولا نسأل كشفه من ربنا". قال سهل بن إبراهيم:"صحبته فمرضت، فأنفق عليّ نفقته، فاشتهيت شهوة، فباع حماره وأنفق عليّ، فلما تماثلت قلتُ أين الحمار؟ قال: بعناه!، فقلتُ: ماذا أركب؟! فقال: يا أخي! على عنقي، فحملني ثلاثة منازل". وقال شقيق:"كنا عنده يومًا، إذ مرّ به رجل، فقال:"أليس هذا فلاناً؟"، فقلنا: "نعم"، فقال الرجل: "أدركه". وقل له: لمِ َلم يُسلِّم؟ "فقال له: "إنّ امرأتي وضعت، وليس عندي شيء، فخرجت شبه المجنون"، فقال:"إنا لله! غفلنا عن صاحبنا!"، ثم استقرض له دينارين، وأمر أن يشترى له بدينارٍ ما يصلحه، ويدفع إليه الآخر، فدفع ذلك إلى زوجته، فقالت:"اللهم لا تنس هذا اليوم ل إبراهيم!"، ففرح بدعائها فرحًا لم يفرح مثله قط!".
حُبّ الآخرة وجهاد الدنيا.. التقى شقيق وإبراهيم بن أدهم في مكة، فقال له إبراهيم:"ما بدء حالك الذي بلّغك هذا؟"، قال:"سرتُ في بعض الفلوات، فرأيت طيرًا مكسور الجناحين، في فلاةٍ من الأرض، فقلتُ: انظر من أين يُرزَق هذا!، فإذا أنا بطيرٍ قد أقبل، وفى فِيهِ جرادةٍ، فوضعها في منقاره، فاعتبرت وتركتُ الكسب، وأقبلت على العبادة"، فقال إبراهيم:"ولِمَ لا تكون أنت الذي أطعم المكسور، حتى تكون أفضل منه؟، أما سمعت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اليد العليا خير من اليد السفلى)، ومن علامة المؤمن أن يطلب أعلى الدرجتين فى أموره كلها، حتى يبلغ منازل الأبرار!"، فأخذ شقيق يده يقبلها، وقال له:"أنت أستاذنا!". اعلم أنّك لا تنال درجة الصّالحين حتّى تجوز ستّ عقبات. وقال إبراهيم بن أدهم لرجلٍ في الطّواف، اعلم أنّك لا تنال درجة الصّالحين حتّى تجوز ستّ عقبات: أولاها: أن تغلق باب النّعمة، وتفتح باب الشدّة. والثّانية: أن تغلق باب العزّ، وتفتح باب الذُّل. والثّالثة: أن تغلق باب الرّاحة، وتفتح باب الجهد. والرّابعة: أن تغلق باب النّوم، وتفتح باب السهر. والخامسة: أن تغلق باب الغنى، وتفتح باب الفقر. والسّادسة: أن تغلق باب الأمل وتفتح باب الاستعداد للموت.
بينه وبين ربِّه وبينه وبين الناس وسُئِل يومًا لِمَ لا تخالط الناس؟ فقال:"إن صحبت من هو دوني آذاني بجهله، وإن صحبت من هو فوقي تكبّر عليّ، وإن صحبت من هو مثلي حسدني، فاشتغلت بمن ليس في صحبته ملل، ولا وصله انقطاع، ولا في الأُنس به وحشة". وسأله رجل، فقال:"إنّي لا أقدر على قيام الليل فصف لي دواء؟، فقال: "لا تعصه بالنهار، وهو يقيمك بين يديه في الليل، فإنّ وقوفك بين يديه في الليل من أعظم الشرف، والعاصي لا يستحق ذلك الشرف".
مقولات خالدة ومن بديع كلامه رحمه الله:"إذا كنت بالليل نائمًا، وبالنهار هائمًا، وفي المعاصي دائمًا، فكيف تُرضِي من هو بأمورك قائماً؟!". وقال عن تمام الورع:"إنما يتم الورع بتسوية كل الخلق في قلبك، والاشتغال عن عيوبهم بذنبك، وعليك باللفظ الجميل من قلب ذليل لربٍّ جليل، فكِّر في ذنبك، وتُبّ إلى ربك، يُنبِّت الورع في قلبك، واقطع الطمع إلا من ربّك". وقال واصفًا للتوكل:"التوكل طمأنينة القلب لموعود الله". وقال عن حُسن التوكل على الله:"إن أردت أن تعرف الرجل، فانظر إلى ما وعده الله، ووعده الناس، بأيهما يكون قلبه أوثق!". وعن التقوى، قال:"تُعرَف تقوى الرجل في ثلاثة أشياء: في أخذه، ومنعه، وكلامه". إياك والشكوى لغير الله:"من شكا مصيبة نزلت به إلى غير الله!، لم يجد في قلبه حلاوة لطاعة الله". وعن الرضا بقضاء الله وجميل قدره، قال:"إذا أردت أن تكون في راحةٍ فكُلّ ما أصبت، والبس ما وجدت، وارض بما قضى الله عليك". وسُئِل يومًا ما علامة التوبة؟ فقال:"إدمان البكاء على ما سلف من الذنوب، والخوف المقلق من الوقوع فيها، وهجران إخوان السوء، وملازمة أهل الخير". وقيل له:"ما علامة المطرود؟ فقال:"إذا رأيته مُنِع الطاعة واستوحش منها قلبه، وحلاله المعصية واستأنس بها؛ ورغب في الدنيا وزهد في الآخرة، وشغله بطنه وفرجه؛ ولم يبال من أين أخذ الدنيا؛ فاعلم أنه عند الله مُباعَد،لم يرضه لخدمته". وقوله:"على القلب ثلاثة أغطية: الفرح، والحزن، والسرور، فإذا فرحت بالموجود فأنت حريص، والحريص محروم. وإذا حزنت على المفقود فأنت ساخط، والساخط مُعذّب. وإذا سُررت بالمدح فأنت معجب، والعجب يحبط العمل. ودليل ذلك قوله تعالى: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم). وذمّ الحرص والطمع، فقال:"قلة الحرص والطمع؛ تورث الصدق والورع، وكثرة الحرص والطمع؛ تُكثر الهم والجزع". وعن إكرام الضيف، قال:"ليس شيء أحب إلى من الضيف؛ لأنّ رزقه ومؤنته على الله، وأجره لي". وحُبِّب إليه الفقر حتى وصفه، قائلًا: "الفقر مخزون في السماء، يعدل الشهادة عند الله، لا يعطيه إلا لمن أحبه". وكتب إِبراهيم بن أدهم إِلَى سُفيان الثَّوريّ:"من عرف مَا يطلب هان عليهِ مَا يبذل، ومن أطلق بصره طال أسفه، ومن أطلق أمله ساء عمله، ومن أطلق لِسانه قتل نفسه". وقال محمد بن إسحاق، أخبرني أبي، قال قلتُ لإبراهيم بن أدهم أوصني، فقال: "اتخذ الله صاحبًا، وذر النَّاس جانبًا". وكان ابن أدهم شديد الحب لوطنه يحنُّ إليه دومًا، ويقول: "عالجتُ العبادة فما وجدت شيئًا أشدّ عليَّ من نزاع النفس إلى الوطن"، كما روي عنه، قوله:"ما قاسيتُ، فيما تركتُ، شيئًا أشدُّ عليّ من مفارقة الأوطان". توفي إبراهيم بن أدهم سنة (162 ه)، وهو مرابط في سبيل الله بإحدى جزر البحر المتوسط، ولمّا شعر بدنو أجله قال لأصحابه:"أوتروا لي قوسي، فأوتروه، فقبض على القوس، ومات وهو قابض عليها يريد الرمي بها"، فعاش رحمه الله عابدًا ومات مجاهدًا، ودفن في مدينة جبلة على الساحل السوري، وأصبح قبره مزارًا، وأقيم في موضع وفاته مسجداً سُمّي بجامع "السلطان إبراهيم"، وهو أهم مساجد جبلة اليوم.