وسط تكالب محموم ومذموم ممن يتمسحون بالإسلام ويدعون أنهم حُماته ورافعو لوائه، ذهبنا إلى واحد من علماء السنة، الذى وإن غيبه الموت قبل أكثر من اثنى عشر قرنا من الزمان، إلا إن سيرته لا تزال ممتدة، تقدم دروسا وعبرا للاهثين وراء سلطان زائف، من نجوم الإسلام السياسى، الذين لا يخجلون من الكذب والتزلف، للقفز على السلطة مهما كان الثمن. إنه إبراهيم بن أدهم، أحد علماء أهل السنة والجماعة ومن أعلام التصوف السني في القرن الثاني الهجري، جمع بين العلم والتواضع، والثراء والزهد. اقتربت إليه، وألقيت عليه السلام، فرد التحية بأحسن منها، وأحسن استقبالى، وإن بدا مقطب الجبين، وأبلغته أننى أبتغى منه النصيحة لقومى ولى بعدما غدا المشهد ضبابيا واختلط الحابل بالنبل، فبادرته بالسؤال.. ما لى أرى شيخنا الجليل مهموما؟ -تؤلمنى أخباركم أشد الألم.. أية أخبار؟ -تكالب رجال يتمسحون بالإسلام على الدنيا، فهم كمن يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم. لعلك تقصد إذن مرشحى التيار الإسلامى للانتخابات الرئاسية فى مصر؟ -هو ما أقصده تماما. وكيف السبيل ؟ -لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، لقد بلغ السيل الزُّبى، حتى فقد الشيوخ وقارهم، وأعمتهم شهوة الدنيا عن نبل المقصد، فصاروا يقولون ما لا يفعلون، وكبر مقتا عند الله أن يقولوا ما لا يفعلون. -سيدى الشيخ، إنهم يدافعون عن أخطائهم ويظنون أنفسهم فوق النقد .. -إنه الغرور والغرور من صفات أبليس وليس من صفات المسلم الحق. وما تقول لأولئك الباحثين عن مغنم سياسى من الإسلاميين؟ - يتناول قدحا من الماء ثم يلتفت إلى ّ قائلا: كلّ سلطان لا يكون عادلاً, فهو واللص سواء، وكل عالم لا يكون تقيًّا, فهو والذئب سواء، وكلّ مَن ذلَّ لغير الله، فهو والكلب سواء. وما تقول فيمن يكذب ويراوغ من المحسوبين على الإسلام للحصول على ما لا يستحق بالمخالفة لصحيح القانون؟ - أقول لهم :"خالفتم الله فيما أنذر وحذر، وعصيتموه فيما نهى وأمر، وإنّما تحصدون ما تزرعون، وتجنون ما تغرسون، وتُكافأون بما تفعلون، وتُجزوْنَ بما تعملون .. كونوا على حياء من الله، فوالله لقد ستر وأمهل وجاد فأحسن". وما أعزّ الأشياء في آخر الزمان؟ - ثلاثة: أخ في الله يؤنس به، وكسب درهم مِن حلال، وكلمة حقّ عند سلطان. وما الذى ينبغى على أهل العلم أن يصنعوه بعيدا عن السياسة؟ - أقول لهم: فليكن العلم مِن بالكم, فإنّه رأس العبادة وقوام الدين. وكيف النجاة لمن خرج عن جادة الصواب منهم؟ - من أَراد التَّوبة منهم، فليَخرُجْ مِن المظالمِ، وَلْيدعْ مخالطَة النَّاس، وإلا لمْ يَنَلْ ما يريد. كنت مثالا فى الزهد والتواضع رغم علمك وثرائك، فكيف كان ذلك؟ - يصمت قليلا ثم يقول: ليس من المروءة ألا يكون المسلم زاهدا متواضعا، فهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكنك لم تكن تخالط الناس؟ -ينظر إلى ّ شذرا ثم يقول: فعلت ذلك، لأننى إن صحبت من هو دوني أذاني بجهله وإن صحبت من هو فوقي تكبر عليّ، وإن صحبت من هو مثل حسدني, فاشتغلت بمن ليس في صحبته ملل ولا وصلة انقطاع ولا في الأنس به وحشة. كان لك رأى فى الفقر، هل ما زلت تذكره؟ -نعم، فالفقر مخزون في السماء، يعدل الشهادة عند الله، لا يعطيه إلا لمن أحبه. وما قولك فى القلب وأحواله وتقلباته؟ -على القلب ثلاثة أغطية: الفرح، والحزن، والسرور. فإذا فرحت بالموجود فأنت حريص، الحريص محروم. وإذا حزنت على المفقود فأنت ساخط، والساخط معذب، وإذا سُررت بالمدح فأنت معجب، والعُجب يحبط العمل، ودليل ذلك قول القرآن: "لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم". وكيف يكون المسلم صادقا؟ -وكأنه اندهش من السؤال، ثم أجاب: قلة الحرص والطمع تورث الصدق والورع، وكثرة الحرص والطمع تكثر الهم والجزع. يتساءل المسلمون: ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا، والله تعالى يقول: "وقال ربكم ادعونى أستجب لكم"، فما تقول فى ذلك؟ -عندما تعود إليهم قل لهم: إن قلوبكم ماتت بعشرة أشياء: عرفتم الله ولم تؤدوا حقه، قرأتم القرآن ولم تعملوا به، ادعيتم حب الرسول صلى الله عليه وسلم وتركتم سنته، ادعيتم عداوة الشيطان وأطعتموه، ادعيتم دخول الجنة ولم تعملوا لها، ادعيتم النجاة من النار ورميتم فيها أنفسكم، قلتم الموت حق ولم تستعدوا له، اشتغلتم بعيوب الناس ولم تنشغلوا بعيوبكم، دفنتم الأموات ولم تعتبروا، أكلتم نعمة الله ولم تشكروه عليها. وكيف يصبح المسلم ورعا؟ - إنما يتم الورع بتسوية كل الخلق في قلبك، والاشتغال عن عيوبهم بذنبك، وعليك باللفظ الجميل من قلب ذليل لرب جليل، فكر في ذنبك وتب إلى ربك ينبت الورع في قلبك، واقطع الطمع إلا من ربك. وكيف ينال المسلم حب الله؟ -إذا أردت أن يحبك الله فأبغض الدنيا، وإذا أردت أن يحبك الناس فما كان عندك من فضولها فانبذه إليهم. لأنك كنت سيد الزاهدين، فكيف يقاوم الناس الغلاء؟ - ذكروا لى يوما أن اللحم غلا ثمنه. فقلت: أرخصوه، أي لا تشتروه فترخص أسعاره. وهل تتعارض عبادة الله مع حب الوطن والإيمان بقضيته؟ -يعلم الله أنى كنت شديد الحنين إلى وطنى، فقد عالجت العبادة فما وجدت شيئاً أشد عليَّ من نزاع النفس إلى الوطن، وما قاسيت، فيما تركت، شيئاً أشد عليّ من مفارقة الأوطان. -يا شيخ إن نفسي تدفعني إلى المعاصي فعظني -وكأنه بدا مصدوما من السؤال لكنه أجاب: يا بنى إذا دعتك نفسك إلى معصية الله فاعصه ولا بأس عليك، ولكن لي إليك خمسة شروط. ما هى؟ - إذا أردت أن تعصي الله فاختبئ في مكان لا يراك الله فيه. - سبحان الله، كيف أختفي عنه وهو لا تخفى عليه خافية؟ سبحان الله .. أما تستحي أن تعصي الله وهو يراك؟! - زدني.. - إذا أردت أن تعصي الله فلا تعصه فوق أرضه. سبحان الله .. وأين أذهب وكل ما في الكون له؟ أما تستحي أن تعصي الله وتسكن فوق أرضه؟ - زدني.. - إذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزقه. سبحان الله .. وكيف أعيش وكل النعم من عنده؟ -أما تستحي أن تعصي الله وهو يطعمك ويسقيك ويحفظ عليك قوتك؟ -زدني.. - فإذا عصيت الله ثم جاءتك الملائكة لتسوقك إلى النار فلا تذهب معهم. - سبحان الله .. وهل لي قوة عليهم إنما يسوقونني سوقاً. - فإذا قرأت ذنوبك في صحيفتك فأنكر أن تكون فعلتها. - سبحان الله .. فأين الكرام الكاتبون والملائكة الحافظون والشهود الناطقون؟