إعداد: محمد أسعد تعددت قرارات حظر النشر فى الآونة الأخيرة، سواء صادرة من النائب العام وقضاة التحقيق أم المحاكم الجنائية. مما أثار العديد من التساؤلات حول مشروعية هذه القرارات والتوسع فى استخدامها خصوصا أنها تمس حق المواطنين فى المعرفة والحصول على المعلومات والبيانات وحريات الصحافة وتداول المعلومات المنصوص عليها فى الدستور والقوانين المصرية. «الأهرام العربي» تفتح هذا الملف، مع عدد من أساتذة القانون والفقهاء الدستوريين وشيوخ القضاة، وطرحت عليهم عدة تساؤلات للوصول إلى كيفية خلق حالة من التوازن بين حق الإعلام والرأى العام فى المعرفة، وحق حظر النشر فى بعض القضايا التى تمس الأمن القومى أو ما شابه ذلك، وما المعايير والضوابط التى يجب أن تحكم قرارات حظر النشر، كما تكشف عن قائمة القضايا التى صدر فيها قرارات حظر النشر ومصيرها.
خلال الفترة الماضية صدرت قرارات بحظر النشر فيما يقارب ال30 قضية، بعضها صدر فيها القرار بحظر النشر فور وقوع أحداثها. والبعض الآخر صدر فى ظل فترة التحقيقات أو إجراء المحاكمة، كانت آخر تلك القرارات قرار حظر النشر الصادر من قبل النائب العام فى قضية القبض على اثنين من الصحفيين من داخل مقر نقابتهم، وكانت من ضمن المطالب التى أسفر عنها اجتماع أعضاء الجمعية العمومية مطلب بوضع ضوابط لقرارات «حظر النشر». تستند قرارات حظر النشر إلى بعض مواد قانونى العقوبات والإجراءات الجنائية التى أكدت أن «السرية» هى الأصل فى الجلسات، وتلتزم الصحف إعمالاً بنص المادة 23 من قانون 96 لسنة 1996، الخاص بتنظيم الصحافة التى تنص على أن يحظر على الصحيفة تناول ما تتولاه سلطات التحقيق أو المحاكمة بما يؤثر على صالح التحقيق أو المحاكمة أو بما يؤثر على مراكز من يتناولهم التحقيق أو المحاكمة..» بينما يحق للنائب العام إصدار قراراته بحظر النشر فى القضايا بدعوى «سلامة سير التحقيقات والحفاظ على سريتها ومنع التأثير على جهات التحقيق» وذلك كله دون وجود مواد بعينها تنظيم مسألة إصدار قرارات «حظر النشر». بينما تنص المادة 68 من الدستور على أن «المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك الشعب، والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة حق تكفله الدولة لكل مواطن، وتلتزم الدولة بتوفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية، وينظم القانون ضوابط الحصول عليها وإتاحتها وسريتها وقواعد إيداعها وحفظها والتظلم من رفض إعطائها، كما يحدد عقوبة حجب المعلومات أو إعطاء مغلوطة عمداً..» تكشف «الأهرام العربي» عن حيثيات حكم سابق صدر من محكمة القضاء الإدارى بمجلس الدولة فى شهر يناير الماضى فى القضية التى حملت رقم 2302 لسنة 69 قضائية، التى قضت فيها المحكمة بإلغاء القرار الصادر من النائب العام بحظر النشر فى قضية وقائع تزوير انتخابات رئاسة الجمهورية التى جرت عام 2012. المحكمة ذكرت فى حيثيات حكمها، أن القاعدة العامة فى مجال نشر الأخبار والمعلومات فى وسائل الإعلام هى جواز النشر، وأن حظر النشر يبقى فى هامش الاستثناء الذى لا يتوسع فيه، ويشترط لإعمال الاستثناء وجود نص من الدستور أو القانون يحظر النشر أو يضع قيوداً على النشر، فإذا لم تتوافر إحدى الحالات المستثناة فإنه يٌرجع إلى الأصل وهو حرية وسائل الإعلام فى النشر، فلا يجوز أن تكمم الأفواه وتقصف الأقلام دون سند من القانون. أضافت أن الأخبار والمعلومات التى تخص الشأن العام من أدوات تشكيل الرأى العام، وللمواطنين ووسائل الإعلام الحق فى النفاذ إلى مصادر المعلومات الصحيحة للحصول عليها وتداولها ونقلها وإجراء النقاش والجدال حولها، ليشكل كل مواطن رأيه فى الشئون العامة على هدى من نور الحقيقة دون حجر على حرية فكره. وجاء أيضا بالحيثيات أن المواطن هو حاكم رأيه وسيد معتقده، وهو أساس الديمقراطية والتى تتجاوز المفهوم التقليدى لها المتمثل فى المشاركة فى الانتخابات، لتصبح عملية مستمرة تضمن مشاركة الأفراد فى كل أمور الشأن العام مشاركة فاعلة، ولا تتحقق هذه المشاركة إلا إذا كان المواطنون على بصيرة من الحقائق عما يحدث فى وطنهم. سطرت كذلك فى حيثيات حكمها «المعرفة بالشأن العام تشكلها وسائل الإعلام ومحتوى الإعلام يؤثر فى الرأى العام، فإذا كانت مادة الإعلام صحيحة صادقة فى أخبارها ومعلوماتها أدرك الرأى العام حقيقة ما يجرى إدراكاً سليماً، أما إذا حرمت وسائل الإعلام من الأخبار والمعلومات الصحيحة فإن ذلك ينعكس سلباً على الرأى العام، وكل مساحة تخلو فى وسائل الإعلام من المعلومات والحقائق تملأ بالأكاذيب والأضاليل، وكل خصم من العلم الصحيح بالحقائق يؤدى إلى زيادة الجهل والانتقاص من الرأى العام ويفضى إلى عدم مصداقية وسائل الإعلام ويصرف الناس عن متابعة الشأن العام، كما يجرد وسائل الإعلام من تأثيرها الإيجابى فى الدفاع عن حقوق وحريات المواطنين وتبنى قضاياهم». وذكرت أن كل تقييد أو وضع حواجز على حق المواطنين وحق وسائل الإعلام فى الوصول إلى المعلومات الصحيحة والأخبار الصادقة دون سند من القانون وفى غير وجود مبرر يستند إلى مصلحة عامة، يعد سيراً على غير مسار الدستور، وإهداراً للحقوق التى صانها للمواطنين ووسائل الإعلام.
جدل قضائى.. حظر النشر «قرار إداري» أم «محصن»؟ هذا الحكم يعتبر بمثابة أول حكم قضائى يقضى ببطلان قرار صادر بحظر النشر، وهنا يثار تساؤل مهم. هل قرارات حظر النشر يجوز الطعن عليها أمام القضاء الإدارى أم أنها قرارات قضائية محصنة؟ يقول عصام الإسلامبولى الفقيه القانونى والدستورى أنه يجب التفرقة بين نوعين من قرارات حظر النشر، الأول التى تصدر من جهة التحقيق أو هيئة المحكمة وهى من ضمن «الأعمال القضائية» التى لا يجوز الطعن عليها، والنوع الآخر من القرارات التى يصدرها النائب العام وهو ما يعتبر قرارا «إداريا» يجوز الطعن عليه أمام القضاء الإدارى كما حدث فى الحكم السابق. يختلف المستشار محمد عطية وزير الدولة لشئون مجلس الشعب الأسبق مع الإسلامبولى فى هذه الجزئية، حيث يرى أن كل قرارات حظر النشر تتعلق بالعمل القضائى وبالتالى فهى محصنة ولا يجوز الطعن عليها سواء أمام القضاء الإدارى أم القضاء العادى لأنه ضمن «الأعمال القضائية» التى لا تحتاج إلى طعن أو تظلم خصوصا أنه مرتبط بإجراءات التحقيق. كما أن سلطة إصدار هذا القرار متروكة للنيابة العامة التى تجرى التحقيقات أو المحكمة التى تنظر القضية، وترى أن المصلحة العامة تقتضى ذلك، ربما لأن القضية تتعلق بالأمن القومى أو خوفاً من هروب المتهمين أو ما شابه ذلك. المستشار عطية سبق له وأصدر حكماً قضائياً فى فبراير 2009، أثناء ترأسه للدائرة الأولى بمحكمة القضاء الإدارى قضى فيه بعدم اختصاص محاكم القضاء الإدارى بنظر الطعون على قرارات حظر النشر، باعتبارها عملاً قضائياً وذلك فى الدعوى التى أقامها عدد من المحامين طعناً على قرار حظر النشر فى قضية مقتل الفنانة سوزان تميم. يضيف عطية أن النائب العام لم يصدر قرارات حظر النشر «اعتباطاً» ولكن لأن بعض الأمور والقضايا تقتضى السرية التامة فى التحقيقات. وأنه من حق النائب العام فعليا إصدار قرارات بحظر النشر فى القضايا التى تتوصل التحقيقات فيها لمعلومات أو وقائع من شأنها الإضرار بالأمن القومي، دون التوسع فى إصدارها.
هل أفرط النائب العام فى استخدام حق «حظر النشر»؟ محمود كبيش العميد الأسبق لكلية الحقوق جامعة القاهرة، يتفق على أحقية النائب العام فى إصدار قرارات بحظر النشر فى القضايا التى تتعلق بالأمن القومي، أو حينما يرى أن إفشاء معلومات بعينها فى القضية قد تضر بالحقيقة والتحقيقات، لكن ذلك مرتبط أيضا بعدم التوسع فى إصدارها. فى ذات الوقت يرى كبيش أن سلطة النائب العام فى إصدار قرارات حظر النشر يجب ألا تكون مطلقة، لكنها «مقيدة» خصوصا أنها تتعلق وتمس الحق فى المعرفة ، وبالتالى يجب أن يتوافر شرط «الضرورة» عند إصدار مثل هذا القرار وتحديد ما هو محظور نشره وما يمكن نشره مع عدم المبالغة فى إصدارها كما حدث خلال الفترة الماضية. صابر عمار عضو لجنة الإصلاح التشريعى، يرى أن قرارات حظر النشر التى صدرت سواء من النائب العام أم المحاكم فيها نوع من الإفراط فى استخدام هذا الحق. أضاف عمار ، أن المشرع أقر حظر النشر مراعاة لظروف بعض القضايا التى يرى المحقق أو القاضى أن نشر تفاصيلها قد يؤثر سلباً على سير القضية، كسماع الشهود أو حينما يتعلق الأمر بالأمن العام وغيرها من الأمور التى تستدعى السرية.
ضوابط ل «حظر النشر» لكن الإسلامبولى يرى وجود «فراغ تشريعي» يتمثل فى عدم وجود نص تشريعى ينظم عملية الطعن على هذه القرارات، كما يجب وضع ضوابط وقواعد معينة لعملية إصدار قرار بحظر النشر، وهو ما كان واحداً من مطالب أعضاء الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين. من ضمن الضوابط الواجب وضعها أن يكون الحظر بصفة مؤقتة ومحددة، وأن يتم إصدار بيانات متتالية حول القضية من قبل النائب العام احتراما لحق المواطنين فى المعرفة وبما لا يخل بسير التحقيقات، وأن يكون استخدام حق حظر النشر فى أضيق الحدود، وإعلام الجميع عن أسباب التى استدعت قرار حظر النشر، وألا يساء استخدام هذا الحق».. وهذا كله من وجهة نظر المستشار الإسلامبولي. المستشار عطية يتفق أيضا فى هذه الجزئية ويقول «برغم شرعية ودستورية إصدار قرارات حظر النشر لكنه يجب فى النهائية الإعلان عن الحقيقة للرأى العام بشفافية مطلقة وإطلاعه على كل التفاصيل التى جرت، وأن ينتهى أثر حظر النشر بانتهاء التحقيق». يوضح عطية « حظر النشر أيضاً لا يعنى حجب المعلومات عن الصحفى والرأى العام بشكل دائم، ولكنه وضع استثنائى ومؤقت ووفقا لضوابط معينة وذلك كله لصالح المجتمع». أمير سالم المحامى يقول إنه فى حالة وجود سرية شديدة فى التحقيقات نتيجة خطورة المعلومات خاصة إذا كانت تمس الأمن القومى أو أسراراً عسكرية لا يجب إطلاع الجمهور عليها، هنا يبدأ الحق فى حظر النشر، ويجب أن يكون حظر النشر مبنى على أسباب قانونية وأسباب جنائية وتتعلق بحماية الشهود أو حماية الأسرار أو أمور تمس الأمن القومي، فبعض القضايا والتحقيقات تستدعى الخوف من التأثير على الشهود أو العبث من الأدلة الجنائية أو مسرح الجريمة. يضيف سالم الأصل فى جلسات المحاكمة «العلانية» وللمواطنين الحق فى الحصول على المعلومات والمعرفة لما يجرى فى البلاد، كما أن قانون الصحافة والدستور المصرى يعطى الحق بشكل كامل للصحفيين فى الحصول على المعلومات ومعرفة ما يجرى من أحداث بما فى ذلك النيابة العامة، طالما لا يوجد تأثير على الأدلة الجنائية، ولا يجوز حرمان المواطنين والصحفيين من المعرفة والمعلومات. ويرى المحامى أن التوسع فى استخدام حظر النشر حجة الأمن القومى قد يضر بالأمن القومى نفسه من خلال ترديد الشائعات، وأنه يجب إعادة النظر فى التشريعات التى تنظم قرارات حظر النشر، وتحديد وحصر الجهات المخول لها اتخاذ مثل تلك القرارات وأسبابها وكيفية الطعن عليها.
نائب برلماني: سنصدر تشريعا يقنن استخدام «حظر النشر»
عضو مجلس النواب أسامة شرشر قال: إن عددا من النواب بصدد التقدم بمقترح يقنن عملية «حظر النشر» لوضع ضوابط لاستخدام هذا الحق، لا أن يستخدم فى كل قضية تثار أمام الرأى العام وبدون أية ضوابط، خصوصا أن الدستور المصرى نص على حرية الصحافة وحق الرأى العام فى المعرفة والحصول على المعلومات». أضاف شرشر أنه خلال مناقشة التشريعات الإعلامية ستتم مناقشة تشريع يحدد ضوابط بعينها لاستخدام حظر النشر، الذى لابد ألا يكون استخدامه بشكل مطلق، فمن حق الرأى العام أن يعرف كل صغيرة وكبيرة تحدث إلا فيما يتعلق بالأمن القومي، وخلاف ذلك لا يجوز حرمان المواطنين من حقهم فى المعرفة.
حظر النشر والمواثيق الدولية
صدقت مصر على عدد كبير من المواثيق والاتفاقات الدولية ،التى تعتبر جزءا من المنظومة التشريعية فى البلاد، وتنص المادة فالمادة 19 من العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية على أن لكل إنسان حقا فى حرية التعبير، ويشمل هذا الحق حريته فى التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أم مطبوع أم فى قالب فنى أو بأية وسيلة أخرى يختارها. ولكنه ينص أيضاً على أنه تستتبع ممارسة الحقوق المنصوص عليها فى الفقرة السابقة واجبات ومسئوليات خاصة، وعلى ذلك يجوز إخضاعها لبعض القيود ، لكن شريطة أن تكون محددة بنص القانون وأن تكون ضرورية لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم، ولحماية الأمن القومى أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة. أمير سالم المحامى يقول: إنه لا يوجد فى الخارج ما يسمى ب»حظر النشر»، وحينما تتعلق قضية معينة بالأمن القومى يتم الرجوع لمجلس النواب لاتخاذ قرار بشأنها، وذلك كله فى أضيق الحدود. يضرب مثالاً على ذلك بالتحقيقات التى أجريت مع الرئيس الأسبق للولايات المتحدةالأمريكية بيل كلينتون بسبب فضيحة مونيكا لوينسكي، حيث كان كلينتون يواجه الاتهامات وتجرى التحقيقات على الهواء مباشرة أمام الرأى العام.
الشائعات تطارد القضايا المحظورة
محكمة القضاء الإدارى ذكرت فى حيثيات حكمها السابق الإشارة إليه جملة «كل مساحة تخلو فى وسائل الإعلام من المعلومات والحقائق تملأ بالأكاذيب والأضاليل»، ويتساءل الإسلامبولى عن مصير بعض القضايا التى صدر فيها قرار بحظر النشر منذ شهور عدة ولا أحد يعلم إلى أى شىء انتهت التحقيقات، وهو ما يفتح الباب لمزيد من الشائعات والأقاويل. يقول الإسلامبولى « يجب أن يكون حظر النشر محددا بمدة وينتهى آثره بانتهاء التحقيقات، وأن يتم مصارحة الرأى العام بكل الحقائق وما انتهت إليه التحقيقات فى كل القضايا. من ضمن القضايا التى صدر فيها قرار بحظر النشر ولا أحد يعلم إلى أى شىء «قضية اتهام أحد القضاة بطلب رشوة جنسية وقضية اتهام أعضاء نيابة وضباط شرطة بالاتجار فى الآثار. عضو لجنة الإصلاح التشريعى صابر عمار يرى أيضا أن الإفراط فى حظر النشر وعدم إعلان الحقائق فى النهاية للرأى العام، يؤدى إلى نوع من التأويل والشائعات والتشكيك فى مؤسسات الدولة، وهو ما قد يطول سلطات التحقيق ذاتها، ولذلك يجب تعريف المواطنين بالحقائق أولا بأول وإصدار بيانات رسمية يومية بمستجدات التحقيق.