عزمى عبد الوهاب "ما جرى قبيل 18 و 19 يناير 1977 يعتبر شكلا من أشكال تجليات ما جرى قبيل 25 يناير 2011 " كان هذا هو الهاجس الأساسي الذي يسيطر على القاص والروائى "أشرف الصباغ" وهو يكتب روايته "رياح يناير" وهو السياق الذي حكم أغلب أعمال "الصباغ" الأخرى ومنها: "قصيدة سرمدية في حانة يزيد بن معاوية" و"العطش" و"خرابيش" و"مقاطع من سيرة أبو الوفا المصري" إضافة إلى ترجماته التي تذهب في أكثر من اتجاه..ترك "الصباغ" تخصصه العلمي النادر في الفيزياء، ليتفرغ للكتابة الأدبية والسياسية، وفي ذلك عودة لما كان عليه قبل الذهاب إلى موسكو للدراسة، ومن ثم الحصول على الدكتوراه، وهنا حوار معه. ترجمت إلى العربية كتاب «لوصية السياسية» ويتضمن أفكار بليخانوف الأخيرة هل فى هذه الوثيقة ما يكفي للإجابة عن السؤال كيف انهار الاتحاد السوفيتى؟ هذه الوثيقة، على الرغم من التشكيك فيها، رصدت نظريا التحولات المقبلة للاتحاد السوفيتي، والمراحل التي سيمر بها حتى نهاية القرن العشرين، كما رصدت مناطق الضعف والانحراف فى التجربة، وحتى إذا لم يكن كاتبها هو بليخانوف، فعلينا أن نتعامل معها كوثيقة أو نص تاريخي – سياسي يتضمن جملة من التوقعات النظرية المبنية على فهم كامل وإدراك وخبرة تاريخية – ثورية، لقد طرحت الوثيقة تصورا لانهيار التجربة السوفيتية، سواء لأسباب داخلية أو خارجية، أو الاثنين معا، وذلك فى خطوط عامة تساعدنا الآن على رصد التفاصيل والتحقق منها، وإدراك الأسباب الحقيقية التي أدت إلى انهيار التجربة السوفيتية، وهذا لا يعني إطلاقا فشل أو عدم جدوى الأفكار الإنسانية التي تتضمنها النظرية الماركسية، فالتجربة السوفيتية مجرد تجربة تحتمل النجاح أو الفشل مثل أي تجربة. فى روايتك الصادرة حديثا «رياح يناير» لماذا تعود إلى ما جرى فى مصر قبيل 18 و 19 يناير 1977؟ ما جرى قبيل 18 و 19 يناير 1977 يعتبر شكلا من أشكال تجليات ما جرى قبيل 25 يناير 2011، كان مدخلا مهما لتعرية الواقع الأليم الذي كان يعيشه المصريون الذين انتصروا – ربما لأول مرة في تاريخهم الحديث والمعاصر بجيشهم الوطني – فى حرب مهمة بعد هزيمة منكرة، ولكن استثمار نتائج الحرب سياسيا لم تكن على نفس مستوى الانتصار العظيم، لقد كان هذا الاستثمار بداية استثمارات أجنبية فى بلد مفتوح على مصراعيه لطبقات وشرائح جديدة لا يهمها إطلاقا أي مصالح وطنية، إضافة إلى أن الشهور التي سبقت 18 و 19 يناير شهدت غليانا اجتماعيا وسياسيا وطائفيا، عكس مدى انحطاط السياسة الداخلية وتحويل مصر إلى دولة من دول «الموز»..الانتفاضة المصرية الخلاقة فى 1977 لا تزال بحاجة إلى بحث وتقص على كل المستويات، بما فيها الفنى والأدبى والاجتماعى والسسيولوجى، لقد كانت تمثل إرهاصات الاحتجاجات الجماهيرية المبنية على قلق شعبي حقيقي، ليس فقط بسبب العوامل الاجتماعية ورفع أسعار الخبز، بل أيضا بسبب بوادر التطاحن الطائفي الذي تجلى فى صور أخطر بكثير، شهدنا فصولها فى ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، وتفاقمت بشدة فى مطلع الألفية الثالثة. هل هناك تشابه بين ما جرى هناك وما جرى فى يناير 2011؟ من الصعب أن نتحدث عن تشابهات أو تطابقات، لكن يمكن الحديث عن تراكمات وتطور للعوامل والتناقضات الرئيسية التي أدت لانتفاضة المصريين فى 1977، فالانهيارات الصغيرة آنذاك فى الاقتصاد والسياسة، ومقدمات الانهيار الاجتماعي، تفاقمت على مدى ما يقرب من 35 عاما، وزادت حدة التناقضات على كل المستويات، بما فيها التشريعي، وضرب الفساد السياسي والاقتصادي مصر واستشرى ليس فقط فى مؤسسات الدولة، بل وفي المجتمع نفسه، فخرج الناس طلبا للكرامة وضد عنف الأجهزة الأمنية، وخلال أيام قليلة ارتفع سقف المطالب ليشمل مطالب اجتماعية وسياسية وتشريعية، وفى عام 1977 خرج المصريون بسبب رفع أسعار الخبز، وبعد ساعات قليلة ارتفع سقف المطالب أيضا، إلى هنا تفترق الطرق، فالقوى السياسية في الحالتين، بما فيها الأحزاب السياسية، ليست متشابهة، والتدخلات الخارجية تختلف فى الحالتين، الزمنان مختلفان تماما بكل ظروفهما وعواملهما التاريخية والاجتماعية، وهذا أمر طبيعي بسبب العامل الزمني، وعوامل التقدم التقني، وبالتالي، يمكن أن ندرك لماذا تم قمع انتفاضة 77 خلال 48 ساعة، ولماذا تتواصل ثورة 25 يناير وتستمر فى موجات تضيق وتتسع لأسباب وعوامل داخلية وخارجية. هل تأثرت بما كان يكتبه جيل الستينيات فى مصر؟ قرأت أعمالا كثيرة لكتاب مختلفين من هذا الجيل، لكنني لم أتأثر بتجربتهم، بعض الأعمال أعجبتني وبعضها الآخر لا، وهذا يحدث عادة وليس فيه أي جديد، وأنا لست امتداد لأي منهم لأن لكل كاتب عالمه الخاص وصوته المنفرد، أعتقد أن الجيل الجديد عاش متغيرات اجتماعية وسياسية مختلفة عما عاشه جيل الستينيات، بالتالي ليس متوقع أن تتشابه الكتابة، وفى ظني أن الكُتّاب الشباب عادة ما يبحثون عن مشروعهم الخاص لتقديم رؤيتهم للعالم بطريقة تختلف عن الأجيال السابقة، إضافة لذلك، أرى أن الجيل الجديد فى الكتابة جيل بلا أساتذة، فجيل الستينيات مثلا، وربما جيل السبعينيات أيضا، تتلمذ على يد نجيب محفوظ، لكن لم تمتد يد إلى الكتاب الجدد فى الألفية الثالثة، وربما كان ذلك أفضل على أي حال. كان من الممكن أن تتخصص فى الفيزياء بحكم دراستك العلمية لماذا تركت كل هذا لتنخرط فى العمل الصحفى؟ علاقتي بالفيزياء النظرية والرياضيات بعد 21 عاما من حصولي على الدكتوراة فيها، أصبحت مجرد متابعات وقراءات فقط، لكنها لعبت دورها، على الأقل، فى تنظيم التفكير ورفع درجة الوعي بالعالم وبما يجري فيه من تطور علمي – تقنى، ومسألة ابتعادي عن تخصصى لها قصة طويلة لا يوجد مجال هنا للحديث عنها، بينما الأمر يتلخص فى أنني عدتُ إلى العمل الذي كنت أمارسه فى الفترة بين انتهاء الدراسة الجامعية وسفري للحصول على درجة الدكتوراة من روسيا، لقد عدت ببساطة إلى الصحافة والكتابة بعد حوالي 7 سنوات من الانقطاع الكامل. كان هناك أمل كبير فى الاستمرار والعمل فى المجال العلمي، لكن كل الظروف اجتمعت لتقف حائلا أمام هذا الأمل، سواء كانت الظروف فى روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي وأحوالها السيئة، أو فى مصر حيث لا علم حقيقياً ولا بحث علمياً يسفر عن منجز علمي حقيقي، إضافة إلى ذلك هناك حالة الانهيار الاجتماعي – الاقتصادي وسيطرة الشعوذة والعلوم الكاذبة على المجتمع بشكل عام، فترتان سيئتان للغاية تزامنتا فى موسكووالقاهرة، إنها سنوات التسعينيات، والسنوات العشر الأولى من القرن الواحد والعشرين.. وبالتالي كان من الضروري تحويل التوجه تماما، على الأقل لممارسة دور إنساني فى المجتمع، سواء فى روسيا أو فى مصر، أو فى أى مكان آخر. هل كان ذلك وراء تأخر نشر مجموعتك القصصية الأولى "قصيدة سرمدية فى حانة يزيد بن معاوية"؟ بدأت النشر فى الصحف والمجلات عام 1985، حيث نشرت لي أول قصة فى مجلة "القاهرة" أثناء تأدية الخدمة العسكرية، وبعد ذلك عملت فى دار التحرير للطبع والنشر "صحيفة المساء" وواصلت النشر فى العديد من الصحف والمجلات فى مجالات عديدة، منها النقد المسرحي والسينمائي والتحقيقات الأدبية والثقافية، ولم أتمكن من نشر روايتي التي كتبتها في ذاك الوقت لأسباب كثيرة، وسافرت فى نهاية عام 1997 إلى موسكو لاستكمال دراساتي العليا فى تخصصي "الفيزياء" وانقطعت تماما عن الكتابة، اقتصرت حياتي على القراءة بمعدلات مذهلة، والعمل على الرسالة، وفى عام 1995 أدركت أن الاستمرار فى مجال العلوم أمر صعب للغاية، فعدت إلى الصحافة والكتابة، وكانت غالبية قصص هذه المجموعة مكتوبة أصلا فى منتصف الثمانينيات، فقمت بتنقيحها ونشرها فى مجموعة، وخلال عام كانت المجموعة الثانية "العطش" جاهزة للنشر، ثم المجموعة الثالثة "خرابيش" فى هذا الوقت بدأت الترجمة أيضا للمجلات المتخصصة، وإصدار بعض الترجمات فى مجالات متعددة داخل مصر وخارجها. تعيش أغلب وقتك بعيدا عن مصر هل أفادك هذا إبداعيا أم أضرك؟ بُعد الكاتب عن المجتمع الذي نشأ فيه يسهم فى إعادة بناء عقله وتصوراته، وإثراء تجربته، فما بالك إذا كان الشخص يسافر ويتابع ويطمح لمشاركة الآخرين ويكتب لهم ما يراه، أعتقد أن ذلك جدير بالمتابعة ضمن ما يطرحه الآخرون أيضا، فلعل وعسى أن يطرح جديدا أو أي شيء مختلف، أما عنصر التجاهل أو عدم الحضور فى المناسبات الأدبية والثقافية، فهذا أيضا أمر مهم، فماذا نفعل إذا كان الغياب الجسدي يؤثر فعلا فى الترويج للمنتج، ومع ذلك، أنا أعرف مبدعين داخل مصر لا يرحبون كثيرا بحفلات التوقيع والانضمام إلى شلل ومجموعات إبداعية مغلقة.