تقرير محمد وطنى «إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف لتأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يُفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص مع الطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين، أو الحقوق والأوضاع السياسية التي يتمتع بها اليهود في أي بلد آخر».. كان هذا هو نص «إعلان بلفور» أو مأصبح يعرف بوعد بلفور، والذي تضمنته رسالة أرسلها وزير خارجية بريطانيا جيمس آرثر بلفور إلى اللورد البريطاني ليونيل روتشليد في 2 نوفمبر 1917، وبعد مرور ما يناهز الأعوام المائة، صوت مجلس العموم البريطاني الاثنين 13 أكتوبر بأغلبية كاسحة لصالح مذكرة تطالب الحكومة البريطانية بالاعتراف بفلسطين كدولة مستقلة. تنص المذكرة على: "هذا المجلس يعتقد بأنه يجب على الحكومة أن تعترف بدولة فلسطين إلى جانب دولة إسرائيل باعتبار ذلك إسهاما في ضمان تطبيق حل الدولتين عبر التفاوض"، وقد حصلت المذكرة على تأييد 274 عضوا في مجلس العموم، فيما رفضها 12 عضوا فقط. تقدم بالمذكرة عضو مجلس العموم جراهام موريس، عن حزب العمال المعارض، وحظي بتأييد معظم النواب المنتمين لمختلف الأحزاب، وعلى رأسهم رموز حزب العمال ورئيسه إد مليباند، الذي حث أعضاء حزبه على التصويت لصالح المذكرة، وهو ما أسهم في النسبة العالية من التأييد الذي حصلت عليه المذكرة، خصوصا أن مليباند ينحدر من عائلة بريطانية ذات أصول يهودية، بالإضافة إلى نواب الحزب الليبيرالي الديمقراطي شريك حزب المحافظين في الائتلاف الوزاري الحاكم، والذي يؤيد في غالبية نوابه بشكل معلن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وقد قال مقدم المذكرة موريس في تصريحات صحفية سبقت عملية التصويت: "إنه من المهم أن يناقش البرلمان البريطاني قضية الدولة الفلسطينية، وأن يعكس الاهتمام العام بالنزاع في منطقة الشرق الأوسط". وبرغم إصرار العديد من رموز دوائر صنع القرار الأوروبية والبريطانية التأكيد على رمزية المذكرة، وأنها لا تلزم الحكومة البريطانية - التي غاب رئيسها ووزراؤها عن جلسة التصويت - بشىء فإن العديد من المراقبين ينظرون للسياق الذي جرى فيه التصويت، أوروبيا وبريطانيا، فمقدم المذكرة موريس نفسه قال في تصريح لوكالة "فرانس برس" إن "الاعتراف ولو رمزياً بدولة فلسطين يمكن أن يحث دولا ً أخرى من الاتحاد الأوروبي على المضي قدما في الاتجاه نفسه"، فيما رأى محرر الشئون البريطانية لدى "بي بي سي" روب واتسون إن التصويت يعكس مشكلة أوسع لإسرائيل في الرأي العام والأوساط السياسية في الكثير من الدول الأوروبية، فيما دعا فينسينت فين، القنصل العام السابق لبريطانيا في القدسالشرقيةالمحتلة إلى التصويت بتأييد مذكرة موريس عبر مقالين نشر أحدهما في صحيفة الجارديان قبل التصويت، وكان وليام هيج وزير الخارجية البريطاني السابق قد قال قبيل ترك منصبه: "إننا نحتفظ لأنفسنا الحق بالاعتراف في شكل متبادل بفلسطين دولة، في اللحظة التي نراها مناسبة وعندما يكون ذلك أفضل لإحلال السلام". وذلك على الرغم من تغيب بريطانيا عن التصويت الذي شهدته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2012 على رفع مستوى التمثيل الفلسطيني إلى عضو مراقب، والذي حظي بغالبية 135 صوتا، إبان شغل هيج لمنصبه. كما قال وزير الشرق الأوسط توبياس إلوود خلال مناقشة المذكرة:"إن بريطانيا لها الحق في الاعتراف بفلسطين كدولة عندما يكون ذلك مناسبا لعملية السلام"، وأكد النائب البارز جيرالد كوفمان أن "سياسة إسرائيل المتشددة ضد الفلسطينيين لا تعود بأي نفع على الشعب اليهودي في العالم، وأن ما يقوم به الإسرائيليون لا علاقة له باليهودية، وأنهم يضرون بصورة اليهودية، وقال - خلال جلسة النقاش قبل التصويت - إن "ثمة انتشار مروع للاتجاه المعادي للسامية. وأريد أن أرى نهاية لذلك. أريد أن أرى نهاية للاتجاه المعادي للسامية وأريد أن أرى دولة فلسطينية." فيما اعتبر عضو مجلس العموم عن حزب المحافظين، ورئيس لجنة الاستخبارات والأمن في البرلمان البريطاني مالكولم ريفكند، أنه من "المبكر جدا" الأعتراف بدولة فلسطينية لأن فلسطين ببساطة ليست دولة"، وأضاف ريفكيند: "فلسطين نفسها منقسمة، ليس بسبب الإسرائيليين، بل بسبب الخلاف بين حركتي حماس وفتح"، وأضاف - خلال مناقشة المذكرة - أنه "لا تُعرف حدود للدولة الفلسطينية، كما أنه لا توجد حكومة فلسطينية تحدد سياسة خارجية أو سياسة دفاع ولا يوجد جيش يحمي أراضى تلك الدولة، بينما أكد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون قبل إجراء التصويت إن نتيجته لن تؤثر على سياسة حكومته. وبرغم التسليم برمزية عملية التصويت والدبلوماسية الشديدة التي صيغت بها المذكرة إن صح التعبير يبقى التأكيد على أهمية هذه الخطوة، وأهمية النظر لها في سياقها، فالجدل الذي أثارته المذكرة البريطانية على الصعيدين الأوروبي والدولي على حد سواء سبقه إعلان الحكومة السويدية عزمها الاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية، لتصبح أول دولة عضوا في الاتحاد الأوربي تخطو هذه الخطوة، فيما أعادت وزارة الخارجية الفرنسية الأسبوع الماضي التأكيد على أنه "سيتعين في وقت ما الاعتراف بدولة فلسطين"، في تصريح رسمي. وقد تلى إعلان نتائج تصويت العموم البريطاني على المذكرة ردور أفعال متباينة ففي الوقت الذي اعتبرت في إسرائيل أن اعتراف البرلمان البريطاني بدولة فلسطين "يسيء إلى عملية السلام"، وجاء في بيان صدر عن وزارة الخارجية الإسرائيلية الثلاثاء الماضي: "إن اعترافا دوليا سابقا لأوانه سيوجه رسالة مقلقة إلى القادة الفلسطينيين بأن بإمكانهم تفادي الخيارات الصعبة المفروضة على الجانبين، وهذا من شأنه أن يقوض فرص تحقيق سلام فعلي". رحب وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي باعتراف البرلمان البريطاني بدولة فلسطين، معتبرا إياه "تصحيحا للظلم التاريخي" الذي ألحقه وعد بلفور بالفلسطينيين. وقال المالكي في بيان صحفي "هذا تصحيح الظلم التاريخي الذي أنكر حقوق الشعب الفلسطيني عندما اعتبر أن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" في إشارة إلى وعد وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور عام 1917 الذي تعهد فيه "بإقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين". فيما كان تصريح سفير بريطانيا لدى إسرائيل ماثيو جولد لافتا للنظر حيث قال: "إن تصويت البرلمان البريطاني لصالح الاعتراف بدولة فلسطينية يظهر التغير في المشاعر العامة في بريطانيا ضد إسرائيل"، وأضاف جولد في تصريحات لإذاعة إسرائيل: "إن التصويت الرمزي في مجلس العموم يعكس وجهة النظر تجاه إسرائيل عقب الحرب على غزة، والتي أسفرت عن مقتل أكثر من 2100 فلسطيني معظمهم من المدنيين، وسبعين إسرائيليا معظمهم من الجنود". ويأتي هذا الزخم الذي تشهده الساحة العالمية والأوربية تحديدا حول الاعتراف بفلسطين كدولة، بعد أن وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة رسميا على منح الفلسطينيين صفقة "دولة مراقب" عام 2012، وهو القرار الذي امتنعت بريطانيا حينها عن المشاركة في التصويت مع 40 دولة أخرى، وعقب حرب غزة الأخيرة التي يبدو أنها تركت تأثيرا كبيرا، وربما غير مسبوق في نتائجه، على الرأي العام الأوربي، وهو ما كشف عمه تصريح جولد. وبمقارنة بسيطة مع رسالة بلفور التي عرضنا نصها في أول التقرير، نجد اللغة الدبلوماسية ذاتها تقريبا، إلا أن الرسالة التي لم تلق اهتماما بالغا حين صدورها ترتب عليها سعي حثيث ومستمر من جانب اليهود لتأسيس ما أصبح واقعا يعرف بدولة إسرائيل التي اعترفت بها بريطانيا ذاتها بعد 45 عاما من مذكرة بلفور، فهل تصبح الدولة الفلسطينية واقعا معترفا به بعد ضمان اعتراف أكثر من 130 دولة عضو بالأمم المتحدة بها حال إعلان قيامها؟