تقرير إيمان عمر الفاروق «لم تعد مهمة جنرالات البنتاجون توقيع الاتفاقيات بل عقد الصفقات»، قالها الأستاذ هيكل ذات مرة مُطلاً على واقع ومستقبل السياسة الأمريكية، وها هى تتجسد أمامنا بالدعوة التى أطلقها البنتاجون عبر صفحات جريدة "ستارز آند ستريبس" التابعة له - فى سابقة تُعد الأولى من نوعها - مطالبا شركات ألأمن الخاصة بالتقدم بجيوش المرتزقة العاملين لديها للمشاركة فى القتال ضد تنظيم "داعش" بعقود مدتها 12 شهرا! فكأنها جيش ظل أمريكى بالعراق أو "دوبلير" يؤدى المشاهد الصعبة نيابة عن جنود المارينز، ومع مطالبة أباطرة المرتزقة بالحصانة يتحول إعلان البنتاجون إلى تصريح بالقتل، وليس رخصة عمل لشركات عاشقة لعار التاريخ موصومة بالأعمال القذرة والجرائم البشعة، تفتح فكيها للإطباق على العراق والتهام الدولارات بدعوة رسمية من وزارة الدفاع الأمريكية. علاقة البنتاجون وجيوش المرتزقة ليست بالأمر الجديد، ولكن أن يتم الإفصاح عنها والاعتراف بها رسميا فهو ما يُعد تحولا جديدا وخطيرا، ذلك أن الإعلان الذى نشرته جريدة "ستارز أند ستريبس" - و الذى بدا وكأنه إعلان عن وظائف شاغرة بجريدة "الوسيط" المصرية الشهيرة – يُعد بمثابة وثيقة رسمية تؤكد أن البنتاجون هو الوكيل والراعى الرسمى لتلك الشركات، فالجريدة تُعتبر لسان حال البنتاجون والكونجرس وإن كانت هيئة تحريرها من غير المنتمين لأى من المؤسستين وتُطبع يوميا أربع طبعات، يتراوح عدد صفحاتها ما بين 40و48 صفحة ويرجع تاريخ نشأتها إلى مرحلة الحرب الأهلية الأمريكية، وطبقا لما ورد بالجريدة ففى تطور مشابه بمطلع الصيف الحالى طالب البنتاجون بعض تلك الشركات بإعداد مسح أو تقدير مبدئى لتكاليف عملية إنشاء شبكة معلومات لعشر محطات للاتصالات الفضائية تُعرف باسم "فاست"، ألحقه البنتاجون بطلب آخر ببداية يوليو الماضى بوضع تقدير دقيق لتكلفة بعثة المستشارين العسكريين للعراق، والغريب فى الأمر أن يلجأ البنتاجون إلى مثل تلك الشركات فى عمل كهذا كان بمقدرة موظفى لجنة المحاسبة لدية إنجازه بمهارة وسهولة!اللهم إذا كانت تلك الشركات شريكا له بتلك المهمات، ولما لا؟ فهى تغطى منذ الغزو الأمريكى بالعراق طائفة من الأعمال بدءا من القتال وحتى الطهو بالمطاعم العسكرية الأمريكية. جسر القتلة السريين ولكنها عانت من الركود والانكماش على مدار السنوات الماضية طبقا لتقرير نشرته جريدة "إنترناشوينال بيزنيس" فى أغسطس الماضى فقد عانت شركات الأمن الخاصة من تراجع معدلات التوظيف لديها بنسبة 14%، واضطرت شركة "لوكهيد مارتين" التى تُعد أكبر وأهم تلك الشركات على مستوى العالم من تخفيض قوة العمل لديها بنسبة 20%. ونشرت جريدة "وول ستريت جورنال" تقريرا أشار إلى أن الحرب ضد داعش تمنح المرتزقة فرصة ذهبية لاستعادة وضعهم المالى السابق وتعويض الخسائر التى لحقت بهم فى الفترة من 2008 وحتي2013، وذلك استنادا لتصريحات ستيفن سكوتر -أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن - والذى قال ما نصه: «لقد حول البنتاجون العراق بطوائفه المتناحرة من أزمة إلى فرصة هائلة للبيزنس للمرتزقة والجنرالات لم يكن يحلم بها أحدهم بعد التدهور والتراجع الذى عانوا منه أخيرا، ففى 2008 كان هناك حوالى 242,558 متعاقدا خاصا بالعراق، أفغانستان، الصومال، باكستان، واليمن، وطبقا لتقديرات البنتاجون انكمش هذا العدد مسجلا بيوليو الماضى 66,123 فقط». وتُجدر الإشارة إلى أنه فى عام 2011 منحت وزارة الخارجية الأمريكية شركة "تريبل كانوبي"عقدا قيمته 1,5 بليون دولار لتقديم الخدمات الأمنية لمطار بغداد لمدة 4 سنوات، وذلك بعد أن تم طرد التابعين لشركة "بلاك ووتر" الشهيرة لتورطهم فى جرائم متعددة، وإن كانت شركة "تريبل كانوبي" هى الأخرى لا تخلو صحيفة سوابقها من مخالفات مادية تم حفظ التحقيق بها دونما إبداء الأسباب! وتتزامن التطورات الحالية مع بدء إجراءات محاكمة أربعة من الحراس السابقين فى شركة بلاك ووتر للخدمات الأمنية أمام محكمة اتحادية أمريكية فى واشنطن بعد سبع سنوات من اتهامهم بجريمة قتل 14عراقياً وجرح 14 آخرين على الأقل فى ساحة النسور بوسط بغداد، ولعل هذا ما دفع برؤساء الشركات الأمنية الخاصة للمطالبة بمنحهم الحصانة الكاملة من الملاحقات القضائية. ديفيد جونسون - ضابط سابق بالجيش الأمريكى والمدير التنفيذى لمركز الدراسات الدفاعية المستقبلية بواشنطن - يرصد مزايا الاستعانة بالمرتزقة وتأتى فى مقدمتها إتاحة الفرصة لتقليص حجم القوات القتالية النظامية مما يساعد على الحد من الهجوم السياسى على الصعيد المحلي، خصوصا أن تلك القوات من المرتزقة لا تعتبر ممثلا للشعب الأمريكى فى عرف الرأى العام الأمريكى ووسائل الإعلام بخلاف نظرة الشعب إلى جنوده بطبيعة الحال، هذا فضلا عن انخفاض تكلفة تلك القوات، ودورها التعويضى عن الوجود الرسمى وقدرتها على بلوغ الأهداف الأمنية. ويتفق معه بالرأى باتريك ريدر - مدير العلاقات العامة بالقيادة المركزية الأمريكية -قائلا: لموقع ذا ديلى بيست "إن الإعلان الذى تم نشره بواسطة الجيش الأمريكى يهدف بالأساس إلى إعادة توظيف المتعاقدين من القوات المدنية الذين كانوا بالعراق منذ2012 فهم بمثابة جسر خادع لزيادة الوجود الأمريكى دونما إرسال قوات إضافية نظامية". أما أليسون ستانجير - أستاذ العلاقات الدولية والاقتصاد السياسى بجامعة ميدلبرى ومؤلف كتاب "أُمة فى ظل التعاقد"عن المرتزقة فى فترات وبؤر النزاعات المسلحة - فيعتبر أن ما حدث يعد نقطة تحول خطيرة، فعندما تصدر مثل تلك الدعوة عن البنتاجون، فلابد وأن ترتبط المهام المسندة إلى المرتزقة بالطبيعة العسكرية ولإنجاز أهداف محددة ". المتحدث الرسمى باسم وزارة الدفاع الأمريكية حدد الأهداف المبتغاة من المرتزقة بالبيان الذى نشرته جريدة "ستارز أند ستريبس" موضحا أنها تندرج ضمن الإطار العام للمهمة الحالية و الذى يشمل التخطيط، إدارة العمليات، إدارة الموارد البشرية، العمليات اللوجيستية والعلاقات العامة. والمتابع الجيد لوسائل الإعلام الأمريكية سيواجه بكتيبة من الجنرالات المتقاعدين الذين يدقون طبول الحرب مثل الجنرال جاك كين الذى ظهر على قناة "فوكس نيوز" خلال الشهرين الماضيين تسع مرات، إن لم يكن أكثر، مروجا للخيار العسكرى بوصفه أفضل وسيلة للقاء على تنظيم داعش وبتوسيع نطاق الضربات الجوية وإرسال تعزيزات عسكرية إلى العراق، منتقدا خطاب أوباما الأخير باعتباره غير كاف من وجهه نظره. مكاسب تجار الحرب ويترأس كين مركزا بحثيا يُعرف باسم مركز دراسات الحرب بمشاركة حفنة من المحافظين الجدد أمثال ليز تشينى ووليام كريستول، تولى عملية إمداد "النيويورك تايمز"و "البى بى سي" بالبيانات والمعلومات الأساسية التى نسجت منها قصصها الخبرية عن داعش. ويذيل كين مقالاته "بوول ستريت جورنال" بوصفه جنرالا متقاعدا ومحللا إستراتيجيا وهما ستارا يُخفى قائمة من المناصب يشغلها كين حاليا بالشركات الخاصة، حيث يعمل كمستشار خاص لشركة أكاديمى المعروفة إعلاميا باسم بلاك وواتر، عضو مجلس إدارة بشركة جنرال داينميكس لتصنيع الطائرات والشاحنات، لديه أسهم بشركة إكس فيونيكس المتخصصة فى توريد المرتزقة لمناطق النزاعات. مجلة "فورتشن" الأمريكية نشرت تقريرا بعددها الصادر بتاريخ 13 سبتمبر تحت عنوان:"الرابح الأول من الحرب ضد داعش: الصناعة الدفاعية" فإن أرباب تلك الصناعة بدأوا يتنفسون الصعداء عقب فترة من الركود والجفاف المالى بفعل انسحاب القوات الأمريكية من العراقوأفغانستان والسياسات التقشفية التى قادت إلى خفض الإنفاق العسكرى أخيرا، وحددت المجلة فئتين هما الأوفر حظا بتلك المعركة الممتدة أولاهما فئة منتجى الذخائر والطائرات بدون طيار وثانيتهما القائمون على صناعة الصواريخ والشاحنات. وعن ترسانة الأسلحة التى ستجلب البلايين إلى جيوب القائمين عليها قام باستعراضها لنا دوف زاخيم الذى شغل منصب المراقب المالى للبنتاجون فى عهد إدارة جورج دبليو بوش، الشركة المنتجة للطائرات بدون طيار بريداتور، والتى مازالت تستخدم على نطاق واسع، فضلا عن ريبر الجيل الثاني، المصممة لحمل 3000 رطل من القنابل وللمساعدة فى مسح المساحات الشاسعة من الصحراء، يعتمد العسكريون على جلوبال هوك، المُصنعة بواسطة شركة نورثر وب غرومان لتحوم على ارتفاعات تصل إلى 50,000 قدم لمدة تصل إلى أربعة أيام فى كل مرة. يقول مارك جنزينجر، وهو عقيد متقاعد بالقوات الجوية ونائب مساعد وزير الدفاع الآن فى مركز التقييمات الإستراتيجية والميزانية، واحدة من الأشياء التى يمكن أن تساعد فى تحريك المياه التجارية الراكدة لتلك الشركات شن حملة جوية واسعة النطاق بما يعنى أن توسيع دائرة الصراع بمثابة وعد لجائزة كبيرة بانتظار خزائن المتقاعدين. يقف على قارعة الطريق صغار اللاعبين أمثال شركة "إيرو فيرونمينت"، التى تقوم بتصنيع طائرات بدون طيار صغيرة للغاية تبدو لضآلة حجمها، وكأنها يمكن أن يتم حملها باليد،كذلك أعطانا جايسون غورسكي، المحلل الذى يغطى هذه الصناعة لسيتى جروب، نموذجا آخر يتمثل فى شركة ديجيتال، وهى شركة أقمار صناعية تساعد الجيش فى أعمال المراقبة لتحديد أهدافه بدقة. مصانع سلاح مفتوحة وعلى المدى القصير يتوقع أن يكون الرابح الأول الشركات المنتجة للشاحنات والصواريخ وتتصدرهم بالطبع شركة لوكهيد مارتن، التى تنتج صاروخ هيلفاير، الذى يمكن إطلاقه من منصات متعددة، وجنرال ديناميكس، المتخصصة فى إنتاج الذخائر الحربية. وطبقا لبيانات لجنة المحاسبة بالبنتاجون بلغت تكلفة العمليات العسكرية الأمريكية التى تستهدف داعش حتى الآن نحو 600 مليون دولار منذ منتصف يونيو الماضي، وتنفق الولاياتالمتحدة أكثر من 7,5 مليون دولار يوميا على هذا الصراع المرشح للمضاعفة مع تصاعد وتيرة العمليات العسكرية واتساع مسرحها، ومن الصعوبة بمكان والسابق لأوانه وضع تقدير عام للنفقات الإجمالية لتلك الحرب التى هى فى حقيقتها حرب أجيال مما يحتاج شهورا وربما سنوات. روجركارستينز - ضابط عمليات خاصة سابق والذى عمل كمستشار عسكرى بالصومالوأفغانستان - يرى أن الحرب المزمعة ضد داعش تمثل فرصة ذهبية لشركات الأمن الخاصة التى تمتلك خبرات بالعراق فى مجال التدريب والأمر هذه المرة أكثر ربحية وأقل جهدا وخطورة. وجدير بالذكر أن رونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأسبق أبى الرحيل قبل أن يهدى أباطرة صناعة الحرب صنيعا لا يقدر بثمن، بإضفاء المشروعية عليهم من خلال الاعتراف بهم رسميا كجزء أساسى من آلة الحرب الأمريكية، ففى النشرة الفصلية للبنتاجون 2006 أعلن رامسفيلد عن خطته التى أطلق عليها خارطة طريق من أجل التغيير، والتى أشار إلى أن تطبيقها الفعلى بدأ عام2001، والتى صنفت قوات وزارة الدفاع إلى قوات نظامية عاملة، احتياطية، خدمة مدنية، والمرتزقة، وهؤلاء جميعا يشكلون الكثافة والقدرة القتالية لوزارة الدفاع، فكانت خارطة الطريق الرامسفيلدية انتصارا أسطوريا لخفافيش القتل! ولم يكن رامسفيلد هو صاحب الفضل الوحيد على تلك الشركات، بل شاركه وربما تفوق عليه فى إلقاء تلك القذيفة على رءوسنا السيد بول بريمر الحاكم المدنى سابقا بالعراق وذلك قبيل مغادرته العراق فى 2004، حيث أصدر مرسوما عرف باسم الأمر رقم17 والذى يمنح تلك الشركات حصانة كاملة ضد أية إجراءات قانونية بالعراق. وكانت قضية الجنرالات المتقاعدين بل المتعاقدين موضع جدل فى الماضي، ففى عام 2008 كشفت صحيفة نيويورك تايمز شبكة من الجنرالات المتقاعدين على جدول الرواتب من مقاولى الصناعات الدفاعية والشركات الخاصة.