ريم عزمى قال حكيم العرب ورئيس دولة الإمارات الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان: «إن البترول العربى ليس بأغلى من الدم العربي»، ربما البعض لن يتفق معه ويفضل البترول على أبناء وطنه، وها نحن أمام واقعة تؤكد ذلك بجنوب السودان حيث يصفها الخبراء بأنها تقسيم للمقسم بالفعل وبطلها هو المدعو رياك مشار، صاحب تاريخ حافل بالتمرد! هو نائب رئيس جنوب السودان سابقا وهو من قبيلة النوير ويشغل هذا المنصب منذ يوليو 2011 بعد الاستقلال مباشرة، وكان عضوا فى الوفد المفاوض لدولة جنوب السودان فى أديس أبابا ومن بعده فى الخرطوم وهو من مؤسسى الحركة الشعبية لتحرير السودان ويدين بالمسيحية الإنجيلية، وقام فى منتصف ديسمبر الماضى بمحاولة انقلابية فاشلة ضد غريمه سلفاكير ميارديت رئيس دولة جنوب السودان، وتفجر على إثرها نزاع قبلى بين الدينكا والنوير! وبدأت الحرب الأهلية عقب اشتباك داخل الحرس الجمهورى تصاعد بسرعة مع اصطفاف الجنود إما مع الرئيس سلفا كير أو نائبه المقال رياك مشار، والأكثر تعقيدا هو انضمام "الجيش الأبيض" سييء السمعة من قبيلة النوير، إلى المعركة إلى جانب قوات مشار المتمردة التى تضم العديد من الفصائل الأخرى، بينما دعمت أوغندا كير، فيما دخلت ميليشيات متناحرة من السودان إلى القتال، لذا لا نتعجب من كم الانتهاكات التى جرت أو ستجري! واتهمت القوات الحكومية وقوات المتمردين بارتكاب جرائم حرب من بينها مجازر وعمليات اغتصاب وتجنيد الاطفال كجنود! وربما تأتى هذه الأحداث بشكل آلى أو توقعها البعض بالفعل، لأن مشار يحتفظ بسجل معروف من الانشقاق والتحالف وإعادة التحالف والانقلاب مع رفاقه وخصومه على حد سواء، فقد انشق عن الحركة الشعبية لتحرير السودان عام 1991 وتمرد على جون قرنق مؤسس الحركة ورئيس حكومة جنوب السودان الراحل الذى قتل فى ظروف غامضة عندما تحطمت مروحيته وهو عائد من أوغندا فى عام 2005، وأسس مشار مع بعض المنشقين ما عرف بمجموعة الناصر (نسبة إلى مدينة الناصر فى جبال النوبة)،كما أسس الحركة الموحدة عام 1992، وحركة استقلال جنوب السودان عام 1995، ثم قاد مشار عملية تفاوض مع حكومة عمر البشير بالسودان وآلت إلى ما عرف باتفاقية الخرطوم للسلام 1997، وبعد توترات عديدة سعت دول وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية ومنظمات غير حكومية مع مطلع هذا القرن إلى مساندة ورعاية عقد اتفاق بين قرنق ومشار وإزالة كل أسباب سوء التفاهم بين قبيلتيهما الدينكا والنوير، تمهيدا لبناء جبهة جنوبية ذات قاعدة عريضة ولها أذرع عسكرية وسياسية، بهدف محاصرة أقوى مؤيدى الحكومة فى المنطقة وهو اللواء فاولينو ماتيب (من قبيلة النوير) ذو النفوذ القوى فى ولاية الوحدة التى يوجد بها أكبر احتياطى نفطى فى السودان. وتخرج رياك مشار 61 عاما فى كلية الهندسة بجامعة الخرطوم، وحصل على الدكتوراة فى الهندسة الصناعية والتخطيط الإستراتيجى عام 1984 من بريطانيا، قبل أن ينضم إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان بعدما اندلعت الموجة الثانية من الصراع المسلح بين الحركة والنظام السودانى التى امتدت من 1983 إلى 2005، وتزوج من فتاة بريطانية كانت تعمل فى أعمال الإغاثة، لكنها توفيت فى حادث سيارة فى نيروبى عام 1993 عن 29 عاما، وتزوج بعدها أنجيلينا تينى التى تعد واحدة من أقوى القيادات النسائية فى الجنوب، ومثّل مشار بلده الوليد يوم 15 يوليو 2011 فى الأممالمتحدة، عندما أعلن دولة مستقلة ورفع علمه على مبنى المنظمة الدولية. وتأجلت محادثات السلام فى جنوب السودان مرة أخرى الأسبوع الماضي، فيما تكافح قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة لحماية نحو 22 ألف مدنى فى قاعدة فى بلدة بانتيو، شمال جنوب السودان، حيث جثث القتلى تصطف فى الشوارع المتربة بعد مذبحة عرقية أثناء استيلاء المتمردين على البلدة النفطية.وقال المتحدث باسم الأممالمتحدة ستيفان دوجاريك للصحفيين فى نيويورك: إن قاعدة الأممالمتحدة التى يقوم بحراستها 500 من أفراد قوات حفظ السلام تعرضت لإطلاق صواريخ، وتزايد عدد المدنيين الباحثين عن ملاذ هناك إلى أربعة أمثال بدءا من إبريل، وطالبت الأممالمتحدة بفتح تحقيق فى المذبحة التى راح ضحيتها مئات المدنيين على أيدى قوات المتمردين فى بانتيوومحاكمة المسئولين عن هذه الأعمال "الوحشية"، واستنادا إلى بعثة الأممالمتحدة فى جنوب السودان، فإن قوات مشار التى تحارب منذ منتصف قامت بذبح مئات المدنيين على أسس إثنية (عرقية) خلال سيطرتها على بنتيو، عاصمة ولاية الوحدة، وأوضحت البعثة أن أكثر من 200 شخص قتلوا فى مسجد وقتل عدد كبير آخر فى كنيسة وفى مبنى مهجور للأمم المتحدة وفى مستشفى المدينة، وقال المتحدث باسم الأممالمتحدة دوجاريك: إن البعثة "تدين بشدة جرائم القتل هذه المحددة الأهداف وتطالب بإجراء تحقيق مفصل فى هذه الأفعال البشعة ومعاقبة مرتكبيها وقادتهم"! وها هى الدولة المجاورة التى لا ترغب فى مشاكل على الحدود تنتقد أكبر منظمة دولية قائلة:"كان ينبغى للأمم المتحدة فعل المزيد لمنع مذبحة بجنوب السودان"، وقال الجيش الأوغندى الذى يدعم جنوب السودان فى مواجهة تمرد مستمر منذ شهور"ينبغى لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة فعل المزيد لمنع المتمردين من قتل مئات المدنيين هناك"، وأرسلت أوغندا قوات إلى جنوب السودان بعد فترة وجيزة من اندلاع القتال، وقال الرئيس الكينى أوهورو كينياتا إنه لن يسمح للصراع فى جنوب السودان المجاور بأن يصل إلى حد الإبادة الجماعية لكنه لم يحدد أى تحركات لإنهاء القتال الذى يغلب عليه الطابع العرقى بشكل متزايد، وفى أحدث أعمال عنف كبيرة فى الصراع الذى يصطبغ بشكل متزايد بصبغة عرقية ذكر تقرير للأمم المتحدة أن متمردين طاردوا رجالا ونساء وأطفالا لجأوا إلى مسجد وكنيسة ومستشفى فى بلدة بانتيو النفطية حيث توجد قاعدة للمنظمة الدولية، ونفى المتمردون تنفيذ الهجوم الذى أثار غضبا دوليا ووصفه البيت الأبيض بالمروع، ولجأ قرابة 22 ألف شخص إلى قاعدة الأممالمتحدة فى البلدة عاصمة ولاية الوحدة المنتجة للنفط بعد أعمال القتل التى وقعت الأسبوع الماضي، ويبلغ قوام مهمة الأممالمتحدة فى جنوب السودان نحو 8500 من جنود حفظ السلام وقوات الشرطة فى بلد يبلغ عدد سكانه نحو 11 مليون نسمة، فى حين نفى المتحدث باسم المتمردين لول رواى كوانج، مسئولية المتمردين عن القتل وألقى باللوم على القوات الحكومية. ورأى محللون أن إنهاء المجازر فى جنوب السودان يتطلب جهودا دولية كبيرة، ومع تزايد المجازر العرقية فى جنوب السودان وخروجها عن السيطرة، ومع فقدان السياسيين سيطرتهم على الميليشيات التى تعيث فسادا فى البلاد، فالسبيل الوحيد لإنهاء الحرب الأهلية الدائرة هو بذل جهود دولية مشتركة، وقد وصف مسئول دولى بارز ما يحدث فى جنوب السودان بأنها "أسوأ حقبة" فى تاريخ البلاد! ويرى جون بريندرجاست المؤسس الشرياك لمشروع "كفى" المناهض للإبادة الجماعية، أن الفرصة الوحيدة لمنع إطالة النزاع ووقوع المزيد من الفظائع هو "إطلاق مبادرة عالية المستوى من قبل المجتمع الدولي"، أما كيسى كوبلاند من مجموعة الأزمات الدولية وحل النزاعات الدولية، فقالت إن دولة جنوب السودان ليست لديها أى نية الآن لوقف القتال، برغم أنهم يتحدثون عن محادثات السلام التى تجرى فى إثيوبيا، ووقعت اتفاقا لوقف لإطلاق النار فى يناير، وأضافت أن "الأطراف المتحاربة الآن تفضل محاولة التوصل إلى حل فى ساحة المعركة وليس من خلال محادثات السلام".ويرى فيرديناند فون هابسبرج - لوثرينجين السويسرى الذى يعمل فى جنوب السودان منذ 16 عاما، والمستشار السابق فى الأممالمتحدة والحكومة، أن تاثيرات القتال "كارثية" محذرا من أن "مستقبل الدول الجديدة غير مضمون الآن كما لم يكن مضمونا فى السابق". وأشار إلى أن "المساعدات الإنسانية ليست سوى ضمادة صغيرة لجروح البلاد العميقة" مؤكدا أن البلاد تركت "تعانى من موقف المجتمع الدولى المقسم وغير الفعال"، وتتصارع الحكومة والمتمردون الآن على الثروة النفطية فى جنوب السودان، إلا أن هذه الثروة قد تكون مفتاحا لتسريع أى مبادرة دبلوماسية من خلال تدخل الصين المستثمر الكبير والقوى العظمى، وختم بالقول بأن "هذه فرصة للولايات المتحدة وبعض الدول لتعزيز تعاونها مع الصين والعمل معا لإيجاد الحلول لمساعدة الأطراف على العثور على حلول للنزاع"، ويزور جون كيرى وزير الخارجية الأمريكى كل من إثيوبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وأنجولا فى جولة إفريقية تهدف إلى "نشر حقوق الإنسان وتعزيز السلام"، وتستضيف إثيوبيا مفاوضات السلام الرامية إلى إنهاء النزاع الدموى الدائر فى جنوب السودان.