سوزى الجنيدى بما أن البراجماتية صفة أمريكية فى الأساس، فقد بدأت واشنطن أخيرا فى تغيير سياستها الإستراتيجية تجاه الشرق الأوسط، فالرئيس الأمريكى باراك أوباما أصبح يركز على أولويات مختلفة مثل تحقيق الانتعاش الاقتصادى والاستقلال فى مجال الطاقة والانسحاب من الحروب فى العراق وأفغانستان والانتقال إلى المحيط الهادى، وكذلك يدرك أوباما أن الشعب الأمريكى فقد الرغبة فى الحروب بسبب الأوضاع الاقتصادية، وأن الصين هى المنافس المقبل بجانب روسيا، وإن واشنطن يمكنها التسليم بدور إيرانى أكبر فى المنطقة فى مقابل تخفيف خطر برنامجها النووى. وبناء على ذلك يجاهد أوباما فى فترته الثانية لحصد أى إنجازات تاريخية بالتركيز على الملف النووى الإيرانى وملف عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية فقط، بينما انحصر التحرك الأمريكى فى ملفات مثل سوريا ومصر، ليشهد الشرق الأوسط فراغا أمريكيا ربما لم يحدث منذ خمسينيات القرن الماضى. ويأمل أوباما فى ولايته الثانية تحقيق إنجازات تاريخية مثل زيارة ريتشارد نيكسون إلى الصين فى عام 1972 واتفاقية كامب ديفيد لجيمى كارتر عام 1979 واتفاق الجمعة العظيمة لبيل كلينتون فى إيرلندا عام 1998. كما تبدو واشنطن وكأنها فقدت الأمل والاهتمام بلعب دور فاعل فى الملف السورى وتركته بشكل كبير لروسيا، بعد أن اعتبرته لا يمثل تهديدا مباشرا للمصلحة القومية الأمريكية، خصوصا بعد الاتفاق على تدمير الأسلحة الكيماوية السورية، وركزت واشنطن فقط على زاوية مكافحة انتشار الأسلحة الكيماوية ومكافحة الإرهاب ومساعدة اللاجئين السوريين. وفى نفس الاتجاه بدت واشنطن وكانها تتعامل مع الموقف الحالى فى مصر وكأنها تشاهده خلف لوح من الزجاج واكتفت بمقعد المتفرج حاليا وبنحو خمسين اتصالا هاتفيا بين وزير الدفاع الأمريكى تشاك هاجل ونائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسى، وفضلت واشنطن التعامل مع الواقع الجديد والحفاظ على مصالحها الأمنية والإستراتيجية. وفيما يخص الملف السورى بدأت موسكو تقوم بدور أكبر استغلالا للتراجع الأمريكى فالعلاقات بين روسيا ومصر مرشحة أكثر فأكثر للتقدم فى ظل الزيارة المقبلة لوزيرى الدفاع والخارجية المصريين إلى موسكو لاستكمال الحوار الإستراتيجى الذى بدأ فى مصر، فى أعقاب زيارة وزيرى الدفاع والخارجية الروسيين إلى القاهرة فى نوفمبر الماضى، كما أن الانتقادات الأمريكية والردود المصرية الرافضة لها تعكس حالة من استمرار التوتر فى العلاقات بين البلدين، مما ينذر أن عام 2014 قد يشهد خسارة واشنطن للقاهرة. والخوف كل الخوف أن يكون نهاية النفق الحالى فى المنطقة هو تقسيم لسوريا والعراق وليبيا ودول أخرى مقبلة فى إطار سايس بيكو مختلفة فى الدول العربية فى القرن الحادى والعشرين، وفى ظل مباركة أمريكية وغربية مريبة، تسعى ربما إلى إحداث مزيد من الفوضى والانقسامات داخل الدول العربية لتمهيد الأرض لزرع دولة كردية جديدة فى المنطقة، كما حدث من خلق إسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية، وقد تؤدى الفوضى إلى زيادة شوكة التطرف الإسلامى والجماعات المتشددة، مما سينعكس بالسلب، ليس فقط على المنطقة بل على الولاياتالمتحدةوروسيا أنفسهما. وفى المقابل تسعى موسكو لأن يكون صوتها مسموعا لسنوات مقبلة فى رسم ملامح المنطقة، بعد أن دخل الشرق التوسط مرحلة طويلة من الاضطرابات التى ستقود إلى إعادة بناء شامل قد تستغرق عقدين من الزمان ولا يستطيع أى طرف أن يعرف بالتحديد شكل المنطقة بعدها، خصوصا أن هناك فى المقابل سعيا إيرانيا لإقامة هلال شيعى بعد أن تمكنت من العراق وسوريا ولبنان وحماس فى غزة، مما قد ينذر أيضا بصدام شيعى سنى فى المستقبل القريب بالنظر إلى استمرار استغلال طهران للقضية الفلسطينية والسورية. وترى صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية أن موجة إراقة الدماء التى تجتاح العراق ولبنان وسوريا، تكشف عن ظهور ملامح منطقة شرق أوسط ما بعد الانسحاب الأمريكى لا يملك فيها أى وسيط الإرادة أو القدرة على احتواء موجات العنف الطائفى فى هذه المنطقة. وقالت الصحيفة:»إنه وسط هذا الفراغ، ازدهرت عناصر إسلامية متطرفة فى كل من العراق وسوريا تحت راية تنظيم القاعدة فى وقت تؤثر فيه نزاعات البلدين سلبا على الأخرى وتشجع التطرف أكثر من أى وقت مضى»، ولفتت الصحيفة إلى أن الإدارة الأمريكية تدافع عن سجلاتها للتدخل فى هذه المنطقة، وتشير إلى جهودها لحل الأزمة النووية الإيرانية والنزاع الفلسطيني، لكنها تعترف فى الوقت نفسه بأن هناك حدودا لما يمكن تحقيقه. ونقلت الصحيفة عن نائب مستشار الأمن القومى الأمريكى بنجامين رودس قوله، إنه ليس من مصلحة أمريكا أن تكون لها قوات وسط كل صراع فى منطقة الشرق الأوسط أو أن تتورط بشكل دائم فى حروب بلا نهاية. وتخشى واشنطن حاليا من حدوث انفجار فى مفاوضات السلام الفلسطينية الإسرائيلية مما قد يؤدى لتدخل طرف دولى آخر مثل روسيا أو إيران لملء الفراغ والحلول مكان الراعى الأمريكى الذى فشل حتى الآن فى تحقيق أى تقدم كبير، الأمر الذى أجبر كيرى على اقتراح اتفاق إطارى موقت، يضع إطارا للخطوط الاسترشادية العامة للاتفاق على أن يتم بلورة التفاصيل فى وقت لاحق، ويحدد الاتفاق الإطارى حدود الدولة الفلسطينية ووضع اللاجئين ومصير القدس والأمن والاعتراف المتبادل، وإنهاء النزاع، ويخشى كيرى من خروج ملف المفاوضات من يد واشنطن مثلما خرج الملف السورى والمصرى واللبنانى والسودانى وغيرها، و لهذا جاءت فى الأسبوع الماضى زيارته العاشرة منذ توليه منصبه فى فبراير الماضى ،لمحاولة التوصل لخطوة إلى الأمام قبل إبريل المقبل موعد انتهاء المفاوضات المحدد لها تسعة أشهر منذ يوليو الماضى، واستغل نيتانياهو التلهف الأمريكى للوصول إلى اختراق وطرح ملف إطلاق سراح الجاسوس الإسرائيلى بولارد الذى أدين بالتجسس على أمريكا عام 1987 وحكم عليه بالسجن المؤبد. ولأن الإخفاق كان الملازم لمفاوضات السلام حتى نوفمبر الماضى، مما اضطر معه أبو مازن لإرسال رسالة واضحة للرئيس الأمريكى أوباما ليحدد فيها ما يستطيع قبوله كفلسطين، مما جعل جون كيرى وزير الخارجية الأمريكى، يقرر أن تكون المباحثات فلسطينية أمريكية وإسرائيلية أمريكية على أن تقدم أمريكا مقترحات تشمل أفكار الجانبين، لكن ما تم تقديمه أو تسريبه أخيرا على موقع ديكا الإسرائيلى يوضح أن الأفكار الأمريكية ما هى إلا صورة منسوخة من الأفكار الإسرائيلية، خصوصا بعد أن قررت لجنة وزارية إسرائيلية ضم غور الأردن أخيرا، وتؤسس الأفكار للاعتراف بأن إسرائيل دولة يهودية. الأردن من جانبها أعربت عن قلقها من مشروع ضم غور الأردن إلى إسرائيل ، وأكدت أنه مخالف لاتفاقية السلام الوقعة بين عمان وتل أبيب، وذلك خشية من وجود قناة تفاوض سرية بين محمود عباس ونيتانياهو على حساب الأردن. وتشير التسريبات أن هناك اقتراحا أوليا لمشروع اتفاق إطار فلسطينى إسرائيلى يؤسس لعملية سياسية جديدة محدودة زمنيا ويؤدى إلى مفاوضات تفصيلية تفضى إلى معاهدة سلام كاملة ونهائية، وتعتمد الأفكار على مخطط الرئيس الأمريكى الأسبق بيل كلينتون عام 2000 ومبادرة آنابوليس عام 2008 كأساس للحلول المقترحة، حيث اقترحت إسرائيل على الولاياتالمتحدة دراسة فكرة نقل أراض فى المنطقة التى تعرف باسم المثلث، وتنحصر بين نابلس وجنين وطولكرم فى الضفة الغربية إلى الفلسطينين تعويضا عن إبقاء كتل استيطانية فى الضفة تحت السيطرة الإسرائيلية. وتشير الأنباء أن اتفاق الإطار يستند فى أغلبه إلى مقترحات التسوية التى عرضها رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق إيهود أولمرت فى أغسطس عام 2008 والتى تنص على ضم إسرائيل 6.8٪ من أراضى الضفة الغربية التى تقع عليها كبريات المستوطنات اليهودية، مقابل تسليم الفلسطينين 5,5 من أراضى إسرائيلية بديلة كما يشمل إقامة ممر آمن بين غزة والضفة، واقترح الأمريكيون أن يكون فى صورة قطار سريع ينقل المسافرين من غزة إلى الخليل ودون توقف على أن يتم خصم المساحة التى يشغلها القطار وقضيانه فى الأراضى الإسرائيلية من مساحة الأراضى البديلة التى سيحصل عليها الفلسطينيون، وطلب أبو مازن أن ينتهى مساره فى رام الله وأن تتولى إنشاءه الولاياتالمتحدة، وتتضمن الخطة تقسيم القدس الشرقية بين الفلسطينيين والإسرائيليين باستثناء منطقة الحرم القدسى التى سيتم نقل الإشراف عليها إلى لجنة دولية تضم ممثلى خمس دول هى الولاياتالمتحدة وإسرائيل وفلسطين والأردن والسعودية، وفيما يتعلق بملف اللاجئين فسيتم العودة لاقتراح الرئيس الأمريكى الأسبق بيل كلينتون عام 2000 والذى يقوم على إنشاء صندوق دولى لتوطين اللاجئين فى كندا وأستراليا وعدد صغير فى إسرائيل فى إطار قانون لم الشمل، بحيث تنسحب القوات الإسرائيلية خلال ست سنوات من غور الأردن ويجرى استبدالها بقوات أمريكية لمدة أربع سنوات أخرى.