وسام سعيد ما دمت تعيش بين المصريين وعلى أرض هذا الوطن ..فأنت رغما عنك أحد أصحاب هذه الحرفة، ومن رواد تلك الصناعة.. فهى مهارة مصرية خالصة ومتوارثة (أبا عن جد) ألا وهى «صناعة النجوم والكاريزمات». ولا يخلو حديث أى مصرى منذ عصر الدولة المصرية القديمة وإلى اليوم من تناول أخبار وحكايات بعضها صادق وكثير منها كاذب عن أبطال شعبيين وملوك وحكام وشعراء وفنانين تغزل لهم الناس سير وقصص وملاحم يحملها التاريخ بين طياته راسما ملامح (دولة النجوم). والمسافات الزمنية المتفاوتة بين كاريزما الملكة حتشبسوت وسعد زغلول وأم كلثوم والسادات وأبو تريكة مثلا لا تنفى كونهم جميعا ماركة مسجلة لصناعة شعب يجيد الاحتفاء بالقوة والسلطان، ويخلع على الموهبة والتفرد أنواط المجد ونياشين البطولة وأضواء النجومية، وهذه السمة المتأصلة فى الشعب المصرى هى التى تجعلها قبلة للنجومية يقصدها طالبوا الشهرة فى كل أنحاء العالم العربى. وخلال فترة حكم الرئيس المعزول محمد مرسى، وما آلت إليه البلاد من ترد على كل الأصعدة والمستويات، وعلو نبرة الطائفية والعنف، تنامى إلى أذهان البسطاء والسواد الأعظم من المصريين مدى الضبابية والخوف على المستقبل، وتعالت حالة الاغتراب بين الناس حينما وجدوا أنفسهم أمام شبح تبديل الهوية المصرية الثابتة عبر التاريخ، وانحراف الثقافة المصرية وجنوحها نحو التطرف والظلامية خاصة بعد خطاب مرسى المرعب فى ستاد القاهرة الذى حمل اسم (مؤتمر نصرة الشعب السورى) وسط نخبة من الإرهابيين وكوكبة من المتطرفين فكريا ودينيا طالبوه بشكل معلن ورسمى أن يضرب بيد من حديد و(يستأسد) لتمكين شريعة الله على أرض مصر، وكأننا نعيش منذ آلاف السنين على أرض الكفر والفسوق والعصيان! وسط حالة الخوف من تغير الهوية المصرية، وهبوب رياح أفغانية قاعدية غريبة على الشعب المصرى جاء الخطاب (الدافىء) للفريق أول عبد الفتاح السيسى، وزير الدفاع مستخدما نبرة صوتية (حانية) وغير مألوفة على الأذن المصرية منذ عهد الرئيس جمال عبد الناصر، قائلا " خلينا أقول لكم ..أنهى مروءة اللى إحنا ممكن نعيش بيها كظباط جيش وظباط صف لما نشعر إن الشعب المصرى كله مروع وخايف ...ده إحنا نروح نموت أحسن بقى". وبغض النظر عما لاقاه هذا الخطاب غير المألوف من الساسة المصريين من صدى شعبى جارف، جراء مخاوف الناس من تسلط واستئثار جماعة الإخوان المسلمين بالسلطة، وما يتبع ذلك من فاشية دينية انهارت على إثرها دول كثيرة كالسودان وأفغانستان، فإن الخطاب كان الملمح الأول فى شكل كاريزما جديدة توحى ببطل شعبى يتعطش له المصريون ويشغل مقعد (المخلص) الشاغر منذ سنوات وبعد 30 يونيو ونزول الملايين فى الشارع مرتين الأولى لإسقاط حكم المرشد والثانية يوم 3 يوليو لتفويض وزير الدفاع لمقاومة الإرهاب المحتمل وفقا قوله، كان الفريق السيسى على موعد جديد مع النجومية واكتمال الكاريزما حين قال فى خطابه (الدافىء) الثانى : "اسمعونى من فضلكم ...أنا باقول للمصريين إحنا كنا تحت حسن ظنكم وكل اللى أمرتوا بيه عملناه ..لكن بصراحة .. أنا باطلب من المصريين طلبا.. يوم الجمعة الجاية ..لابد من نزول كل المصريين الشرفاء الأمناء ...ينزلوا ليه ...علشان يدولى تفويض وأمر بإنى أواجه العنف والإرهاب المحتمل". عند هذه النقطة اكتملت الكاريزما وتبلورت الصورة كاملة فى الذهنية المصرية.. وزير دفاع ملىء بالحيوية والفتوة والشباب ...يشارك الجنود تدريباتهم الشاقة.. نظارة سوداء أنيقة تعكس قوة الشخصية.. صوت دافى رخيم.. كاب عسكرى مرصع بالحليات العسكرية وشعار القوات المسلحة.. ليخلف صورة مهترئة ممسوخة عن الخطاب الرسمى رسخها الرئيس السابق (مرسى) بارتجاليته المهزوزة وعشوائية أطروحاته وقاموس ألفاظه الغريب، وكما قلت فإن السواد الأعظم من الشعب المصرى يفتتن ويعشق الكاريزمات خاصة لو تعلق الأمر بالحاكم، فإنه يميل لقناعات خاصة بداخله توارثها عبر الأجيال، بل وردد لها شعارات وعبارات محفوظة عن ظهر قلب منها: (الشعب المصرى ما ينفعش معاه غير الفرعون).. (العادل المستبد هو أصلح من يحكم مصر ).. (المصرى ما يمشيش عدل غير لما ياخد بالجزمة).. (البلد دى ما تتحكمش غير بالحديد والنار).. (إحنا شعب عايز اللى يشكمه وينيمه م المغرب) وإلى غير ذلك من العبارات الانهزامية والانسحاقية والتى تحمل الكثير من التجنى على الشخصية المصرية التى ثارت مرتين خلال ثلاثة أعوام على فاشية مبارك وفاشية الإخوان. وفى حقيقة الأمر فإن هذه الشعارات الساذجة لا تحمل تجنيا على الشخصية المصرية فحسب، بل أرى فيها من الغبن والتجنى والظلم لشخصية الفريق السيسى نفسه الذى يصر أنصار حملة (كمل جميلك) أن يقللوا من رصيده فى الشارع المصرى، ويخلعوا عليه ما ليس فى شخصيته ولا ثقافته السياسية من سمات السطوة والجبروت وحكم البلاد بالحديد والنار والديكتاتورية كنهج لإعادة التوازن والاستقرار للبلاد، وما ألمحه حتى الآن فى شخصية هذا الرجل هو الوطنية وحب مصر وإصراره على اكتمال خارطة طريق تحمل معها مكتسبات ثورة 25 يناير العظيمة التى أطاحت بأكبر ديكتاتور حكم مصر فى تاريخها. ومع مرور الوقت ومع تزايد نبرة المزايدة و(الأفورة) فى حب مصر وجيشها من خلال حملات تطبيل أو أوبريتات غنائية دون المستوى الفنى والفكرى كأوبريت (تسلم الأيادى) للمطرب الشعب مصطفى كامل وآخرين انقسم الناس أمام كاريزما الفريق السيسى إلى ثلاثة فرق: الأول: وهم الأكثر والأغلب ويقدر عددهم بالملايين من الجماهير المتيمة والعاشقة للفريق السيسى ويرون فيه (المخلص) والمنقذ من النكبة والكارثة التى خلفتها فوضى 25 يناير وفقا لقناعتهم ...وهؤلاء يدعمون السيسى ليصبح رئيسا لمصر اليوم قبل الغد حتى لو تقلد المنصب مدى الحياة ...ولديهم قناعة أن الديمقراطية (ما بتأكلش عيش فى مصر) ولا يصلح حيال من يؤمنون بالثورة والحريات إلا الاعتقال أو الضرب بالرصاص الحى ليكونوا عبرة لغيرهم. الفريق الثانى: وهم الإخوان بما يحملوه من انتهازية سياسية تقودهم إلى كره ومقت كل من يقف أمام أحلامهم فى التمكين والصعود والاستئثار بالسلطة ... ويرون فى الفريق السيسى العقبة التى حالت دون آمالهم العريضة فى ابتلاع مصر وجعلها ولاية فى المشروع الإسلامى الوهمى القابع فى أذهانهم ، ويلجأون حيال ذلك إلى أحضان الثورة كفكرة (ملاكى) يؤمنون بها وقت غرقهم، ويكفرون بها ويسخرون من أصحابها وقت تمكنهم وسطوتهم، وهؤلاء لا يرون فى شخصية الفريق السيسى أى خير، وتشكل صورته فى أعينهم كابوسا يصعب الصحو منه. الفريق الثالث: وهم قلة لا يتجاوز عددهم الآلاف من يرون فى الفريق السيسى رجلا وطنيا مخلصا لتراب بلده حافظا لجميلها، وزيرا لدفاع جيشها العظيم وحارسا لحدود مصر وأمنها الإقليمى، ولا ينسون دوره المشهود فى تخليص البلاد من مخطط إرهابى لابتلاع مصر وتقسيمها، ويعلقون على الفريق السيسى آمالا عريضة فى الوفاء بوعده بتسليم البلاد لسلطة مدنية منتخبة، واستكمال طريق الديمقراطية وبناء مؤسسات الدولة وصياغة دستورها بما يحقق مبدأ الثورة (عيش حرية عدالة اجتماعية) ...وأن يحتفظ الرجل بدوره كبطل شعبى يذكره التاريخ كأول قائد مصرى غير طامع فى السلطة ولا يسعى لها، فلا يخسر الجيش المصرى رجلا تعمل له إسرائيل ألف حساب من خلال موقعه كوزير دفاع لا كرئيس للجمهورية. وما بين هؤلاء وأولئك لا حديث للشارع المصرى إلا عن السيسى وموقفه من انتخابات الرئاسة المقبلة، هل سيرشح نفسه ويخلع البدلة العسكرية ويدخل معترك السياسة بما فيها من شد وجذب قد يفقده بريقه وتألقه؟ أم سيختار أن يدخل التاريخ بطلا شعبيا فى أذهان المصريين ويبقى أمينا مؤتمنا على حماية مصر وأمنها الخارجى، وينأى بنفسه عن مهاترات منصب الرئيس الذى أصبح بعد سقوط مبارك منصب (خالى الدسم) ؟ أنا شخصيا أعتبر نفسى معنيا بإجابة الفريق عبد الفتاح السيسى للسؤال الثانى.